رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: العاشق الأكبر.. نزار قباني يحتفل بعيد الحب على طريقته الخاصة



«.. أنا من أسرة تمتهن العشق.. الحب يولد مع أطفالنا كما يولد السُكر فى التفاحة.. أبى كان هكذا، وجدى كان هكذا.. وفى تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق، الشهيدة هى أختى الكبرى وصال، قتلتْ نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها..».
هكذا يسرقك نزار قبانى لتدخل عالمه العائلى، فرغم مأساوية الحدث إلا أنه يعتبره أحد أسباب إبداعه، تمامًا كما كان عشق والدته للياسمين والفل حديقةً يكتب من وحى عطرها، وكما ظلت الحلويات التى يبيعها والده محشورة مثل الفسدق وسط القصائد وكما اكتسبت عنفوانها من «توفيق قبانى» وأبناء جيله ضد الانتداب الفرنسى على سوريا مطلع الثلاثينيات، وكما أثارت موجات الغضب فى امتدادها إلى الجد خليل قبانى مؤسس المسرح العربى الذى حاربوه فى دمشق فبحث عن الحرية فى القاهرة.
وهكذا تمضى حكايته الصغيرة التى وزعها فى كتابه البديع «حياتى فى الشعر» لترى من خلالها ميلاد القصائد وبدايات الإبداع، فهو يأخذك إلى البيت والحديقة وطقوس العائلة لتكتشف معه أسرار القصيدة.

أنا ميلاد الربيع.. وبيت العائلة شجرة ياسمين

من أين يبدأ ألبوم العائلة؟، من لحظة الميلاد فى ٢١ مارس ١٩٢٣ حين كانت الأرض فى حالة ولادة وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء «الأرض.. وأمى حملتا فى وقت واحد ووضعتا فى وقت واحد».
بتلك النرجسية العظيمة التى تناسب هيبة القياصرة فى ملامحه يتحدث نزار عن مولده، ولا يرى فى ذلك مصادفة، فهو شاعر صنع ثورة فى القصيدة العربية لا تقل عما يفعله الربيع بالأرض والأشجار والأزهار، «هل كانت مصادفة يا ترى أن تكون ولادتى فى الفصل الذى تثور فيه الأرض على نفسها أم كان مكتوبا أن أكون كشهر مارس شهر التغير والتحولات؟».
فى البيت سيكبر الطفل بين أشجار الفل والياسمين، فالأم الطيبة الحنون لها طقوسها التى تبدأ من زيارة أضرحة الأولياء الصالحين وتنتهى عند الغرام بزراعة الورد ورعاية أشجار الأضاليا «عشرون صفيحة فل فى صحن دارنا هى كل ثروة أمى، كل فرع عندها يساوى صبيا من أولادها، لذلك كلما غافلناها وسرقنا ولدًا من أولادها بكتْ وشكتنا إلى الله».
ويستفيض نزار فى رسم صورة ناعمة هادئة للبيت الذى عاش فيه، ليس بكاءً على أطلال وليس بحثا عن دراما، ولكن كنقش فى الذاكرة ليعرف كيف بدأت القصيدة تنمو بين ضلوعه، فكتاب «قصتى فى الشعر» ليس سيرة ذاتية بقدر ما هو حوار بين نزار وذاكرته، بحثُ عن أصل تلك الشجرة التى طرحت كل هذه الثمار من القصائد والشهرة والمحبة، سرد شاعرى خفيف لأحداث حياته الكبرى والصغرى يظهر بين السطور كاللؤلؤ المنثور: «هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان فى قارورة عطر؟!، بيتنا كان القارورة: الورد البلدى سجاد أحمر ممد تحت قدميك والريحان والأضاليا وعشرات النباتات الدمشقية لا تزال تتسلق على أصابعى حين أكتب قصائدى.. بيتنا مفتاح شعرى وقصائدى وبغير الحديث عن الدار تبقى الصورة غير مكتملة.. كان اصطدامى بالجمال قدرًا يوميا كنتُ إذا تعثرتْ قدمى أتعثر بجناح حمامة، وإن سقطتُ أسقط فى حضن وردة، هذا البيت استحوذ على مشاعرى وأفقدنى شهية الخروج كما يفعل الصبيان فى كل الحارات، أستطيع أن أغمض عينى وأعد المسامير فى الشبابيك والزوايا، وأحصى آيات القرآن المكتوبة على خشب القاعات.. طفولتى قضيتها تحت مظلة البيت، نهاية حدود العالم عندى كانت الصديق والواحى والمشى والمصيف»، وماذا أضاف البيت إلى قصائدك يا نزار؟: «هذا البيت ترك بصماته على قصائدى كما تركتْ غرناطة وقرطبة وأشبيلية بصماتها على الشعر الأندلسى، فهناك تخلصت القصيدة من غبار الصحراء».
أمى كانت تزور الأضرحة.. وأبى كان يصوم خوفًا منها

هناك بجوار السجادة الفارسية التى كان يراجع عليها دروسه، كان بإمكان نزار أن يلمح والده جالسًا فى صحن الدار وأمامه فنجان قهوته وعلبة تبغه وجريدته، وكلما طوى صفحة تتساقط زهرة ياسمين.
لم يكن نزار يعرف عن والده شيئا فى ذلك الوقت سوى أنه صانع حلويات، رجل رقيق ووديع يحمل الكثير من التناقضات: «كان أبى جبارًا فى المواقف الجسام، لكنه يتحول إلى كوم رماد إن شاهد امرأة جميلة، ينتفض كالعصفور وينكسر كلوح الزجاج إذا مرّ به قوام امرأة فارعة، عيناه الزرقاوان كانتا صافتين كمياه بحيرة سويسرية وقامته مستقيمة كمحارب رومانى وقلبه كإناء من الكريستال يتسع الجميع، ثروته التى يفاخر بها، حب الناس، ويوم مات خرجت دمشق كلها تحمله على ذراعيها».
أقول لك: لم يكن شاعرنا الكبير يعرف عن والده أكثر من ذلك، حتى فوجئ فى ليلة باردة بالعساكر السنغال يقتحمون البيت الهادى ويأخذون والده فى سيارة مصفحة، فأدرك وقتها أن حركة المقاومة السورية فى الثلاثينيات ضد الانتداب الفرنسى بدأت تنطلق من الأرياف إلى دمشق ومن الحارات إلى البيوت ووصلت بيتهم، وأدرك أن جلسات والده وسط مجموعات الأصدقاء لم تكن للمسامرة ولكن للبحث عن الحرية، «كان أبى توفيق قبانى يمتهن عملا آخر غير صناعة الحلوى، كان يمتهن صناعة الحرية».
تبدو صورة الأم عند نزار ملائكية، مثل ملايين الأمهات الطيبات لدرجة أنها كانت ترسل إليه طرود الطعام على عناوين مقرات السفارات التى عمل بها، فقد ظل نزار بالنسبة لها الولد الصغير الضعيف القاصر الذى لا يستطيع ترتيب حياته بمفرده: «كانت ينبوع يعطى بغير حساب تعتبرنى ولدها المفضل وتختصنى دون سائر إخوتى وتلبى مطالبى الطفولية، ظلت تُرضعنى حتى السابعة وتطعمنى بيدها حتى الثالثة عشرة، وعاشت مشغولة البال على طعامى وشرابى ونظافة سريرى، وكبرت وظللت فى عينيها دائما طفلها الضعيف القاصر»، ومع ذلك، ينحاز نزار انحيازًا كاملًا إلى والده، فإن كانت الأم تزرع البيت بالمحبة والورد والعطف والحنان، فإن الأب يتفوق بأفكاره عن الحياة والوجود والدين والثورة على التقاليد والعادات: «لم يكن بينى وبين أمى نقاط التقاء، كانت مشغولة فى عبادتها وصومها وسجادة صلاتها، تسعى إلى المقابر فى المواسم وتقدم النذور للأولياء وتطبخ الحبوب فى عاشوراء وتمنتع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء والغسيل يوم الأثنين وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل ولا تسكب الماء المغلى فى البلوعة خوفا من الجن وتعلق الأحجار الزرقاء فى رقبة كل واحد منّا».
الازدواجية التى سيطرت على شخصية والده هى السر فى تعلقه به كما يقول، فإن كان يبيع الحلوى ويمتهن الثورة، وإن كان لا يصلى الجمعة إلا حرصًا على شعبيته، إلا أن البكاء الذى كان يبكيه وهو يستمع إلى صوت الشيخ محمد رفعت كان أعمق أثرًا فى تكوين شخصية نزار: «لم يكن أبى متدينا بالمعنى الكلاسيكى، كان يصوم خوفا من أمى ويصلى الجمعة حرصا على سمعته الشعبية، الدين عنده سلوك وليس مجرد طقوس، الرغيف فى منزلنا كان دائما نصفين الأول لغيرنا والثانى لنا، وبين تفكر أمى السلفى وتفكير أبى الثائر نشأت أنا على أرض من النار والماء، لكننى أفضل نار أبى عن ماء أمى.. وتعلمت منه سرقة النار».
شقيقتى شهيدة الحب وجدى شهيد الفن

«.. صورة أختى وهى تموت من أجل الحب محفورة فى لحمى، كانت فى ميتتها أجمل من رابعة العدوية وأروع من كليوباترا المصرية.. حين مشيت فى جنازتها وأنا فى الخامسة عشرة كان الحب يمشى إلى جانبى فى الجنازة ويشد على ذراعى ويبكى..».
باستثناء «وصال» التى انتحرت عشقا، لا يذكر نزار الكثير ولا القليل عن أشقائه «معتز ورشيد وصباح وهيفاء» ولا تأتى أسماؤهم إلا فى حديثه عن والده وطريقته الوسطية فى التكفير حتى وهو يختار المدارس التى سيتعلم فيها أولاده، فقد كان الشائع فى سوريا آنذاك المدارس التبشيرية كالفرير التى تعتمد اللغة الفرنسية ولا تعترف بالعربية، وهناك مدارس التجهيز الرسمية وهى على النقيض إذ تمنع الفرنسية وتتبنى الثقافة العربية، واختار «توفيق قبانى» مدارس الكلية الوطنية التى تحتل مكانًا وسطًا وتسمح بتدريس الثقافتين وألحق بها أولاده «معتز ورشيد وصباح وهيفاء وأنا»، وغير ذلك لا يذكر شاعرنا تفاصيل أخرى حتى عن ابنه «توفيق» الذى مات مبكرًا، فهو لا يكتب تاريخ العائلة كما قلنا بقدر ما يبحث عن أصل القصيدة بين شرايينه، وعند «وصال» يتوقف قليلًا ليتأمل تأثير رحيلها على قصائده: «هل كان موت أختى فى سبيل الحب أحد العوامل التى النفسية جعلتنى أتوفر لشعر الحب بكل طاقتى وأهبه أجمل كلماتى، هل كانت كتاباتى عن الحب تعويضا لما حرمت منه أختى وانتقاما لها من مجتمع يرفض الحب ويطارده بالفؤوس».
وعندما يهجم مشايخ التطرف ويطالبون برأسه بعد قصيدته «خبز وحشيش وقمر» وبعد ديوانه «قالت لى السمراء» يستدعى نزار صورة جده أبوخليل القبانى الذى فكر فى تحويل زرائب دمشق إلى مسارح ونجح نجاحًا كبيرًا وقدم أول عرض مسرحى فى دمشق سنة ١٨٧١ «الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح»، تابع الناس أعماله حتى أسسّ فى ١٨٧٩ فرقته المسرحية الشهيرة وهو صاحب الموال الأشهر «يا مال الشام»، وكل ذلك النجاح أصاب المشايخ بانهيار عصبى فسلطوا عليه الرعاع ليشتموه لأنه استعان بالرجال فى تأدية أدوار النساء ولم يكن مسموحًا للمرأة بالتشخيص أو التمثيل آنذاك، وذهبو إلى الأستانة وأخبروا الباب العالى أن هذا الرجل خطر فصدر فرمان بإغلاق المسرح الطليعى فهرب من دمشق إلى القاهرة ليؤسس بدايات المسرح قبل أن يواجه جحافل التطرف نفسها فى عاصمة الفنون: «فى حديقة الأسرة شجرة كبيرة.. كبيرة جدا.. اسمها أبوخليل القبانى إنه عم والدى، قليلون منكم يغرفونه، كان أعجوبة عصره يكتب ويلحن ويخرج.. لكن العمائم نفسها التى طالبت بشنقى والذقون المحشوة بغبار التاريخ التى طلبت رأسه هى نفسها التى طلبت رأسى».

كل المعاناة التى حكى عنها نزار والتى صنعت الكثير من قصائده تبدو هينة ومتواضعة أمام معاناته مع سيدة الجمال «بلقيس الراوى» التى صنعت ملحمة عشق كبرى، فإن كانت هناك «أنثى» تستحق الخلود فى تاريخ الحب الحديث فهى «بلقيس الراوى»، تلك المرأة المصنوعة من عطر خالص أجبر شاعر النساء على الخضوع والاستسلام التام لرائحته المعجونة بالقرنفل والياسمين والبرتقال، ففى صيف ١٩٦٢ كان الشاعر الوسيم فى بغداد يلقى قصائده وتطلعت الحسناوات إليه، لكن رائحة أنثى عظيمة ومختلفة سيطرت على رأسه، تحول خيال الشعر وسهر الليالى بحثًا عن وصف للعينين والشفايف والشعر والرقبة والأنف والخدود إلى حقيقية ملموسة وبإمكانه الآن أن يلمس الطيف ويقبض على الحياة.
أنهى «نزار قبانى» الأمسية الشعرية، والتفت الجماهير حوله وتسابقوا للحصول على توقيعه فى أوتوجراف رومانسى وطلبتْ معجبة مجنونة أن يوقع اسمه على ظهرها، وضحك الجميع، بينما كانت «بلقيس الراوى» الفتاة العراقية الممشوقة تقف بعيدًا تراقب معشوقها من بعيد، وبأنف الشعر وروح الكلمة تنهد نزار ورفع عينيه متطلعًا إلى جمالها وابتسمتْ وجرى إليها وضحكتْ، وتحادثا، وأطفئت الأنوار وغادر الجميع، وانتبها فجأة، فشعرتْ بالخجل، ولوّحا لبعضهما، وبقى عطرها يرواغه طوال الليل.
وقع الشاعر الكبير فى الحب إذن!، لم يصدق نفسه، نعم عظيم جدًا أن يجد الفتاة التى رسمها الخيال، لكن ماذا عن باقى قصص الفاتنات ؟! هل انتهى الشعر، وبدأ عصر الزواج؟! لا يعرف، لكنه أحبها وعليه أن يتقدم الليلة قبل الغد لخطبتها.
الدراما العظيمة رفضت هذا السيناريو البليد، فهو دبلوماسى مرموق، لكنه شاعر النهود والأفخاذ! ولا يليق بعائلة «الرواى» المحافظة التى تنتمى إليها «بلقيس» أن تقبل زوجًا فاجرًا ملعونًا تطارده الكلمات أينما حل!، وتحولت قصائد الغزل إلى وثائق تدين المحب وتزيد عناد القبيلة!، وانهزم شاعر الحب، وركب الطائرة إلى إسبانيا، وهناك تحولت بلقيس إلى أسطورة الهوى: «وخلال هذه السنوات الطويلة كنت أكتب لبلقيس، وكانت تكتب لى.. رغم أن بريد القبيلة كان مراقبا»، ونضج الشاعر والقصيدة وأكتوى كلاهما بلوعة الفراق ومتعة الخيال، فكتب أروع قصائده فى تلك الفترة، وكان ديوان «الرسم بالكلمات» شاهدًا على حضورها فى الغياب
حبك ينمو وحده/ كما الزهور تزهر/... كما بقلب الخوخ.. يجرى السكر/ حبك.. كالهواء يا حبيبتى..».
تمددت بلقيس فى حياة نزار واشتعلت القصائد وعرف الأصدقاء مأساة شاعرهم بعد أن ظنوها قصة عابرة وتمضى، وظلت صباحات تمضى والهوى باق لا يتزحزح بل يزيد ويكبر:
إذا مر يوم
ولم أتذكر به أن أقول
صباحك سكر
ورحتُ أخط كطفل صغير
كلامًا غريبًا على وجه دفتر
فلا تضجرى من ذهولى وصمتى
ولا تحسبى أن شيئًا تغير
فحين أنا لا أقول: أحبُّك
فمعناه أنى أُحبك أكثر.
ظلت المراسيل لا تنقطع بينهما حتى جاء ذلك المساء الذى تلقى فيه «نزار» دعوة لإلقاء الشعر فى بغداد، وكانت بلقيس هى العراق والقصيدة:
مرحبا يا عراق جئت أغنيك/ وبعض من الغناء بكاء/ أكل الحزن من حشاشة قلبى/ والبقايا تقاسمتها النساء.
واهتزت بغداد ونساؤها ورجالها وتعاطفوا مع الشاعر المسكين الذى أصبحت قصته حديث البيوت والمقاهى، وتدخل رجال السياسة لإطفاء لهيب العشق وحل القضية الغرامية، ودعا وزير الشباب آنذاك شفيق الكمالى إلى تشكيل وفد من حزب البعث للذهاب إلى بيت «الراوى» لطلب يد بلقيس.
وتزوج «نزار» المرأة التى كتب لها وعنها وخلدها فى القصائد، والتى تحملت جنونه بالنساء والشتاء والهوى وفتحت صدرها له كطفل ينام نهاية المطاف بين ذراعيها:
أشهد أن لا امرأة/ أتقنت اللعبة إلا أنت/ واحتملت حماقتى/ عشرة أعوام كما احتملت/ أشهد أن لا امرأة/ قد جعلت طفولتى / تمتد خمسين عامًا.. إلا أنت.
وفجأة خطفها الموت.. أصبح الكون بلا بلقيس، وانفجر الحزن والغضب فى قلب الشاعر العاشق، فأجمل ملكات الأرض ذهبت ضحية الصراعات العربية، حيث كانت فى بيروت أثناء الحرب الأهلية ووقع انفجار هائل بمقر السفارة العراقية وراحت بلقيس تحت الأنقاض فى ١٥ ديسمبر ١٩٨١، ونزفت قصائد نزار حرقة وألمًا:
شكرا لكم/ شكرًا لكم/ فحبيبتى قتلت.. وصار بوسعكم/ أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة وقصيدتى اغتيلت.. وهل من أمـةٍ فى الأرض.. إلا نحن تغتال القصيدة؟/ بلقيس.. كانت أجمل الملكات فى تاريخ بابلْ/ بلقيس.. كانت/ أطول النخلات فى أرض العراق/ كانت إذا تمشى../ ترافقها طواويسٌ/ وتتبعها أيائلْ../ بلقيس.. يا وجعى.. ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل.
وتحولت حياته إلى بلقيس، كل شىء يذكره بها، وكل مكان هى حاضرة فيه:
تذبحنى التفاصيل الصغيرة فى علاقتنا.. وتجلدنى الدقائق والثوانى../ فلكل دبوس صغير.. قصة/ ولكل عقد من عقودك قصتان/ حتى ملاقط شعرك الذهبى../ تغمرنى، كعادتها، بأمطار الحنان... لو تدرين ما وجع المكان../ فى كل ركن.. أنت حائمة كعصفور/ فهناك كنت تدخنين../ هناك.. كنت تطالعين/ هناك.. كنت كنخلة تتمشطين.
إن كانت السفينة فى البحر لا تسأل متى أتاها الدّوار فجعلها تلف حول نفسها، فهكذا الكتابة عن نزار لا تنتظر مناسبة أو وقت، اقرأوا الفاتحة على روح المرأة المُلهمة «بلقيس»، وترحموا على شاعر عاش للهوى ومات به.