رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عشر سنوات حتى ظهرت زينب

جريدة الدستور

لم يحب رجل زوجته مثلما أحبّ محمد رفيقته، رغم نقص جمالها وكبر سنها، هى التى تكبره بتسع سنوات، أنجب منها أربعة أبناء وعاش عشر سنوات وأكثر، بلا أى منغصات غير الفقر.
عشر سنوات بلا ضوضاء حتى ظهرت زينب، الرجل الذى تعدى الأربعين وقع فى الغرام من جديد! زوجته عفت- من ناحيتها- تبكى ليل نهار، وتحدث طوب الأرض ليعقل زوجها الذى صار عصبيًا، وسبها أكثر من مرة فى حضرة الأطفال، وطردها من غرفة النوم، منحها البطانية الخفيفة، وطردها من الحجرة، كانت ليلة خميس والست تحاول أن تتودد لزوجها، فنهض من الفراش كمن لدغته عقربة، كوّر البطانية الخفيفة وناولها لها، وطلب منها أن تذهب لتنام فى غرفة ولادها، وعندما ماطلت فى تنفيذ الطلب، خبطها على رأسها بعنف وسحبها من يدها للخارج، وأحكم إغلاق الباب خلفها، وصرخ من الداخل إنه عايز يبقى لوحده شوية.
فى الفراش، جلس يحلم أحلام يقظة بزينب، ابتسامتها وهى تناوله قطعة الزبد، نعومة يدها وهى تطبق على كفه وهى تكوّر له عشرة جنيهات ثمن الفطائر قبل أن يقسم بأغلظ الأيمان ألا يأخذ شيئًا، يدها التى تلين تحت يده الملتهبة، قبل أن تستسلم وتحتفظ بالنقود، بينما يرش هو السمن والسكر فوق الفطائر، ويلفها لها لفة محترمة ويناولها الطلب وهو يضغط بروحه كلها على يدها الساخنة، ثم يتبع جسدها المترهل إثر إنجاب الأولاد والزواج بثلاثة رجال سابقين، جسدها المزدحم يتحرك إثر مشيتها التى تشبه قول الشاعر «تَمْشِى الهُوَيْنَا كَما يَمْشِى الوَجَلُ الوَحْلَ»، يذكر بيت الشعر من أيام المدرسة، ويحب النساء اللاتى يقعن تحت مقصلة هذا البيت، أو صار يحبهن لأنه- فى منتصف نشوته تلك- سيتذكر عفت، ويقطع حبل أفكاره ويقول أم عود ناشف وأيام ناشفة بنت الكلب!
يفكر فى زينب بعدما يحكم إغلاق باب غرفة النوم فى كل الليالى، زينب، وهى تناوله سندوتشات الكفتة البيتى التى تحضرها له يوم الأحد عندما يتقابلان فى الحديقة العامة فى العباسية، يجلسان تحت يافطة «حديقة عرب المحمدى»، تناوله قطعة من الكفتة وتصب له الشاى من التورمس، ويتنهد وتنظر هى فى الأرض وتبتسم.
عندما تصادفه فى أى مكان لن تعرفَه، سترى كم تبدل، وارتسمت الهالات السوداء تحت عينيه، وكأنه فقد صوابه، ونصف وزنه على الأقل، ستجد نظرة ألم غيّمت على عينيه واستقرت!
دخل ذات يوم على عفت زوجته، وابتسم فى وجهها، تهلل وجه السيدة وظنت أنه عاد لرشده، وتذكر الأيام الحلوة والعِشرة، لكنه نظر لها بنظرة ملتاعة، وقال: أحبها يا عفت، أتمناها من كل قلبى، مش طايق روحى، وختم كلامه بأن نزل على ركبته فى الأرض، وبدا متألمًا، وربما باكيًا، وقال: أعيش معها يومًا واحدًا وبعدين أموت، لو أعيش معها فى حفرة فى الأرض أحفرها كده.. وحرك يده كأنه ينبش التراب وقال: أحفر الحفرة وأعيش فيها معها يومًا واحدًا وبعدين أموت.
بعد ذلك المشهد، قررت عفت أن الرجل مجنون، أو ربما به مس، زارت الدجالين وأهل الخطوة، جربت أشياء كثيرة، وسقته طوال أسابيع من مناقيع أعشاب أعطاها لها من ذهبت إليهم لفك السحر، وبعد شهر، كان محمد يتأبط يد عفت، حيث ذهبا معًا لبيت زينب، وهناك بعد صلاة الجمعة ووسط الشارع- الذى ما زال مزدحمًا بالمصلين العائدين لبيوتهم، والأطفال عند بائع الطعمية المجاور لبيت زينب، والنساء فى الطريق من وإلى السوق، وسط هذا اليوم المفترج، والزحام الشديد- نادَى محمد على زينب وأمها.
وقف فى وسط الشارع وصاح: يا زينب.. يا أم زينب، وعندما ظهرت الاثنتان فى النافذة ووجدتا محمد ومعه زوجته، ووسط دهشتهما، صرخ الرجل بصوت عالٍ: أنا باحب مراتى يا زينب ويا أم زينب، أنا بحب مراتى يا نجسة يا بتاعِة الأعمال، واحتضن زوجته وقبلها فى الشارع، وعادا للبيت كأنّ شيئًا لم يكن.
من مجموعة «الجالسون فى الشرفة حتى تجىء زينب»