رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إن لم نعرف الطريق فلنخرج على آثار الغنم!!


أعراب الصحراء متخصصون فى "أقتفاء الأثر" حتى لا يضلوا الطريق. وأتذكر عندما كنا فى فرق الكشافة فى المرحلتين الإعدادية والثانوية كنا ندرس مقرر "أقتفاء الأثر" حيث نُميز بين مسلك الرجل المُسن ومسلك الشاب، بين مسلك القط ومسلك الجمل، بين مسلك الضرير ومسلك المبصر، وهكذا. وعندما تحدث سليمان الحكيم فى سفر نشيد الأنشاد (أو سفر نشيد الأناشيد) – فى العهد القديم - وقد وجه كلامه إلى النفس البشرية – التى كان يعزها جدًا – حتى أنه وصفها بقوله "الجميلة بين النساء" قال: (إن لم تعرفى أيتها الجميلة بين النساء فأخرجى على آثار الغنم وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة). فمن المعروف أن الغنم تعرف طريقها إلى مكان الراعى الصالح وأيضًا إلى جداول المياه، وإن لم يكن الراعى صالحًا فلا يتبعه أحد بل يهرب منه. وهذه إشارة واضحة أن الإنسان الذى ضل طريقه عليه أن يتبع مسلك القادة الصالحين الذين يرشدوه إلى الطريق الصحيح، ويتجنب طريق المضلين، فلا يتغرب فى صحراء العالم المضللة.

وفى عصرنا الحالى تمتعنا وأكتحلت أعيننا بالرعاية والقدوة الصالحة فى شخص البابا كيرلس السادس البطريرك 116 الذى قدم بحياته قدوة طيبة للجميع، وحتى بعد رحيله المُحزن فى 9 مارس 1971 – وحتى هذه اللحظة - مازالت سيرته العطرة يرددها الجميع لما فيها من تعاليم نافعة ورائحة طيبة. أتذكر حرصه الشديد فى فترة أصوام الكنيسة أنه كان يقيم الصلوات الكنسية يوميًا فى وقت متأخر، فكان يبدأ صلواته فى الثالثة بعد الظهر وتستمر إلى الخامسة وأحيانًا إلى السادسة. كنا فى ذلك الوقت أطفالًا صغارًا فى المرحلتين الأعدادية والثانوية، فكنا نحرص أن نغادر مدارسنا مسرعين متوجهين – سيرًا على الأقدام - فورًا إلى الكنيسة المرقسية بالإسكندرية ومعنا حقائبنا فى أيدينا.

وكان البابا كيرلس يفرح عند رؤيته لهؤلاء الأطفال الصغار وهم حريصون على الصلوات الكنسية اليومية فى ذلك الوقت المتأخر. وفى أبوته الصادقة كان يفكر كيف أحتمل هؤلاء الصغار فترة الصوم التى بدأت من منتصف الليل حتى الساعة الخامسة أو السادسة عصرًا، فطلب من العاملين بالمقر البابوى بالإسكندرية – وأعتقد نفس الأمر بالقاهرة – أن يعدوا لنا بعض السندوتشات التى نتناولها بعذ إنتهاء الصلوات لئلا نسقط فى الطريق. أب حقيقى يهتم بأمور الجميع. ومازلنا – حتى الآن وقد تجاوزنا الستين من عمرنا – نتذكر تلك الأيام، ومازلنا حريصون على التمسك بالتقاليد الرائعة التى شاهدناها فى فترة البابا كيرلس السادس. لم نشاهد البابا كيرلس السادس – طوال حياتنا معه – يرتدى أية ملابس مزركشة سواء داخل الكنيسة أو خارجها، بل كانت ملابسه ملابس راهب عادى جدًا، بعيدًا عن أية بهرجة كاذبة. ومن هنا رأينا فى شخصه كيف نعرف الطريق المؤدى بالحقيقة إلى جداول المياه.

أيضًا من علامة الراهب الكامل أن لا يغير شيئًا من تصرفاته من جهة الطعام والمشرب والملبس مع إتمام القوانين الرهبانية الصارمة – سواء كان فى الدير أو فى المدن، فحياته النُسكية لا تتغير. وهذا ما رأيناه بصدق فى الراهب مينا البرموسى المتوحد الذى ظل متمسكًا بحياته الرهبانية الصادقة حتى بعد أن صار بطريركًا – طبقًا لتقاليد الكنيسة العريقة – باسم البابا كيرلس السادس. فالراهب الكامل يجعل فكره مثل فكر صبي يعبُر علي شريط الحياة لا يأخذ منها شيئًا ولا يعطى لأنه لا يملك. فهو الذى ترك مباهج العالم والإدارة والسلطة بإرادته وأصبح "ليس لهُ حقوق في هذه الدنيا"، ومن هنا اقيمت عليه صلاة الموتى وتم تغيير اسمه، وصار يلازم قلايته وسور ديره، لا يحمل جهاز محمول ولا يملك موقعًا على مواقع "التواصل الاجتماعى" وليس له أية تطلعات خارج سور الدير.
أعرف راهبًا – بأحد الأديرة المصرية – كان فى يوم من الأيام أحد تلاميذى بهندسة الإسكندرية بقسم الحاسب والتحكم الآلى، وبعد بضعة سنوات من تخرجه كان قد تم تكليفى من إحدى المؤسسات التعليمية الأمريكية فى الأشراف على أختبار "قوة الذكاء" الذى يُعقد فى نفس التوقيت فى أنحاء العالم، ويتم تصحيحه بالخارج. هذا المهندس حصل على الترتيب الخامس بين الأذكياء على مستوى العالم. وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكان له منصب مرموق فى إحدى شركات الحاسب الآلى، لكنه فى فترة صفاء مع النفس فّكر: (باطل الأباطيل الكل باطل، ولا منفعة تحت الشمس.

وماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟). ترك كل شئ وعاد إلى الإسكندرية يومًا واحدًا، وحضر لتحيتى دون أن يتكلم أو يصرح بما هو مزمع أن يفعله، وفى اليوم التالى غادر إلى الدير. وفى الدير ملتزم بالمبدأ الرهبانى، يعيش كراهب بدون أى رتب كنسية ولا يتطلع إلى رئاسات كنسية، بل يحيا طبقًا لقوانين الرهبنة بدون تعديل أو تأويل أو تفسير. وبداخل الدير يؤدى عمله فى مجال الكمبيوتر، ويرفض أن يقابل الأشخاص لأنه راهب مات عن العالم، فكيف يسمح للعالم أن يخترقه مرة أخرى. هذا نموذج لراهب كامل، وصار عُملة نادرة. وفى وسط حياته الرهبانية الصادقة يرى الذين يتصارعون ويتكالبون على المناصب الكنسية!! وأعتقد أن لسان حاله يقول: (على ماذا يتصارع الموتى؟). فهو يعيش فى سلام كامل مع الله، أما هؤلاء فقد أنخرطوا فى سياسات لا يعلمون قواعدها ولا مطلوب منهم الأنخراط فيها وتحولت المبادئ عندهم إلى عظات براقة جوفاء!!

أذكر فى عام 1969 – كنت وقتها طالبًا بالفرقة الأولى بهندسة الإسكندرية – أن البابا كيرلس السادس وقع عليه أختيار أحد الرهبان الأتقياء الذين كانوا معه فى السكرتارية وهو الراهب متياس السريانى، فأختاره ليكون أسقفًا على إيبارشية دمياط، فما كان من هذا الراهب إلى أن هرب إلى ديره السريان بوادى النطرون. قام البابا كيرلس السادس بتشكيل لجنة من الأساقفة للبحث عن الراهب الهارب وإقناعه بقبول الأسقفية، ولكنه صمم على الرفض ليحيا حياته الهادئة بعيدًا عن الأمور العالمية التى تهدد سلامه الداخلى. وفى مقابلة لأحد محررى جريدة "الأهرام" له وسألوه عن سبب رفضه، فقال لهم – كما هو قد نُشر بالصفحة الثالثة بجريدة "الأهرام" – (نفسى التى أعرف كل أسرارها، والتى إذا لُمتها لا تحزن منى، نفسى هذه أتعبتنى كثيرًا فى طريق الخلاص، فكيف بالحرى أكون مسئولًا عن الآف النفوس التى تريد أن تخلص؟)، وأقول بالصدق أن تلك المقولة التى لا يعرف الكثيرون أن يقولوها أو حتى يفكروا فيها، ما زالت عالقة فى ذهنى منذ ديسمبر 1969 حتى لحظة كتابة هذه السطور، ومازال كثير من رهبان الأديرة المخلصين فى رهبنتهم ملتزمين بها ويفكرون فى طريق خلاصهم.

عجبى على الذين ضلوا الطريق وصاروا معلمين خادعين للكثيرين فأضلوهم!! يشبهون فى ذلك شجرة التينة المزهرة بورقها لكنها بلا ثمر، فوقعت عليها كلمة السيد المسيح: (لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد. فيبست التينة فى الحال). هناك فرق كبير بين السير بأمانة خلف السيد المسيح، والسير فى طريق موازٍ، فهندسيًا الطريقان لا يلتقيان. فلنحذر المرشدين المضلين.