رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صفعة صينية مزدوجة


مع قيامها بحظر بيع واستيراد معظم موديلات «آي فون» التي تنتجها شركة «أبل» الأمريكية، قامت الصين، أيضًا، بإلقاء القبض على الدبلوماسي الكندي السابق، مايكل كوفريج. وقد تشهد الأيام المقبلة مزيدًا من «العواقب الوخيمة»، التي هددت الخارجية الصينية بحدوثها، لو لم يتم إطلاق سراح «منج وانزهو»، المديرة المالية لشركة «هواوي»، وابنة مؤسسها، التي ألقت السلطات الكندية القبض عليها، بطلب من الولايات المتحدة الأمريكية.

مايكل كوفريج، عمل لفترة في بكين وهونج كونج والأمم المتحدة، ويعمل منذ فبراير ٢٠١٧ خبيرًا في شئون شمال شرقي آسيا، بمجموعة الأزمات الدولية. وبينما لم تدل السلطات الصينية بأي تفاصيل (أو تعليق) عن سبب إلقاء القبض عليه، فإن التوقيت يقول بوضوح إنه إحدى «العواقب الوخيمة» أو ردود الفعل الصينية على قيام كندا بإقحام نفسها في الحرب التكنولوجية التي تشنها الولايات المتحدة ضد الصين، ضمن حرب أشمل تستهدف منع أي محاولة لكسر هيمنتها التكنولوجية، أو التفوق عليها في سباق التسلح الرقمي، أو منازعتها في مستعمراتها الرقمية الممتدة من شرق العالم إلى غربه.

إجراءات كثيرة اتخذتها الولايات المتحدة لعرقلة دخول مكونات صينية إلى المنتجات التكنولوجية الأمريكية، ومنع وصول الثانية إلى الأولى. إذ تم فرض قيود جديدة على الاستثمارات الصينية في شركات التكنولوجيا الأمريكية، وقامت «لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة» بإلغاء عدة صفقات صينية، بزعم منع الشركات الصينية من استنساخ أو سرقة التكنولوجيات الأمريكية. وصدر «قانون إصلاح السيطرة على التصدير»، الصيف الماضي، ليتيح الإشراف التنظيمي على الصادرات التكنولوجية. وهناك إجراءات وتدابير أكثر تستهدف استمرار الهيمنة التكنولوجية الأمريكية، أو على الأقل، الحفاظ عليها لفترة أطول.

لفترات طويلة، كانت الشركات الصينية تكتفي بعملية التجميع، قليلة القيمة، بينما العمليات عالية القيمة من التصميم وإنتاج المكونات والتسويق من نصيب شركات أمريكية، أو شركات تحت سيطرتها، أوروبية أو آسيوية. بصيغة أكثر وضوحًا، كان المسموح للشركات الصينية هو أن تلعب دور المورّد الرخيص، وبتخطيها هذا الخط ومحاولتها لعب دول المنافس الذي يهدد الشركات (الصناعة) الأمريكية، صارت تمثل خطرًا، خاصة بعد أن تجاوزت الخط الأحمر بتجاوز «هواوي» لشركة «أبل»، وحصولها على ثاني أكبر حصة من سوق التليفونات المحمولة في العالم، بعد «سامسونج» الكورية الجنوبية.

أسمعك تسأل: ولماذا تحارب الولايات المتحدة هواوي وتترك سامسونج؟

والإجابة ببساطة، هي أن كوريا الجنوبية، بما فيها ومن فيها، بمؤسساتها وشركاتها، واقعة تحت سيطرة «أكبر قاعدة أمريكية في العالم» خارج أراضي الولايات المتحدة، قاعدة «هامفريز»، التي تقع على مساحة تُقدر بحوالي ١٥ مليون متر مربع، وبها ٥١٣ مبنى، وحوالي ٣٠ ألف جندي أمريكي.

التحركات والتدابير الأمريكية ضد «هواوي» لم تكن هي الطلقات الأولى في تلك الحرب التكنولوجية ضد الصين، التي سيطول أمدها. فقد سبق أن عاقبت الولايات المتحدة في ٢٠١٧ شركة «زد. تي. إي» وفرضت عليها قيودًا لم يتم رفعها إلا بعد قيام الشركة الصينية بدفع غرامة قيمتها مليار دولار. وقد تضطر «هواوي» أيضًا إلى دفع رقم أكبر لأنها، ككل الشركات الصينية، لا تزال تعتمد على تكنولوجيا أمريكية، حيوية، وحال الاستغناء عنها بأي بدائل متاحة الآن، ستتأثر جودة المنتج النهائي. غير أن الحرب التكنولوجية الدائرة ربما تدفع الشركة، والشركات الصين إجمالًا، إلى تطوير أبحاثها المحلية، وقد يكون هذا التطوير قد حدث بالفعل.

السبب المعلن لإلقاء القبض على «منج وانزهو» هو الاشتباه في أن «هواوي» انتهكت العقوبات الأمريكية ضد إيران. وبالتهمة أو الذريعة نفسها، عوقبت شركة «زد. تي. إي»، التي كانت واحدة من كبريات الشركات الصينية، قبل أن تدفعها محاصرتها إلى حافة الإفلاس. وهذا بالضبط هو ما تحاول الولايات المتحدة تكراره مع «هواوي» بوضعها على القائمة السوداء، وإجبار الدول الحليفة على حظر التعامل معها، بذرائع مختلفة، شبهها جيمس لويس، خبير التكنولوجيا في أحد المراكز البحثية الأمريكية، بخطورة أن يتعرض منزلك للسرقة من الشخص الذي قام ببنائه، ويعرف كل منافذه، وربما احتفظ بنسخة من المفتاح. لكن، ألا يدفع ذلك التشبيه إلى طرح السؤال البديهي عن الأخطار المحتملة (بل والقائمة) من وجود نسخة من المفتاح، وكل المفاتيح، مع شركات أمريكية؟!

باختصار، نحن أمام حرب حقيقية، لن تستطيع الولايات المتحدة أن تتحمل تكلفة خسارتها، لأن كسر هيمنتها على قطاع التكنولوجيا، لا يعني فقط أرباحًا أقل، بل سيهدد أيضًا سيطرتها على (أو احتكارها لـ«صناعة المعرفة»)، التي كانت أساس نمو اقتصادها، في عصر ما بعد التصنيع، كما سيؤثر أيضًا على تفوقها المخابراتي والعسكري. ولو سألتني عن موقعنا في تلك الحرب، سأقول بمنتهي البساطة والواقعية، إننا نكتفي بالجلوس على مقاعد المتفرجين، وقد لا نستطيع، غالبًا، تشجيع اللعبة الحلوة!