رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ميرفت التلاوى: أستعد لكتابة مذكراتى ومواقفى مع رؤساء مصر

جريدة الدستور

فى أحد شوارع حى الزمالك، ذهبنا إليها حيث تقطن. فى منزل يُغلفه السكون والانضباط الذى لا يقطعه سوى نباح كلب صغير هو حارسه ومستقبل زائريه. أكثر من أربعين عامًا تنقلت خلالها السفيرة ميرفت التلاوى ما بين المناصب المهمة والحيوية داخل مصر وخارجها.

مسيرة عملية مُضنية ومُشرِّفة، من وكيل لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة وأمينة تنفيذية للأسكوا إلى أمين عام للمجلس القومى للمرأة فى مصر، ووزيرة للتأمينات والشئون الاجتماعية المصرية، ثم رئيسة منظمة المرأة العربية التى تركتها مؤخرًا لتتفرغ لترتيب أوراقها المتراكمة على مدار الأربعين عامًا الماضية من العمل الدبلوماسى والوزارى.
«الدستور» التقت ميرفت التلاوى فى حديث عن طفولتها ونشأتها ومسيرة حياتها العملية والشخصية.

الأكبر بين إخوتها.. ووالدها كان رافضًا دراستها الجامعية

من محافظة المنيا كانت البداية. نشأت ميرفت التلاوى ما بين المدينة و«العزبة» التى كان يديرها والدها. تقول: «نشأت فى أسرة صاحبة أطيان فى المنيا، طفولتى كانت ما بين مدينة المنيا والعزبة التى توجد بها الأراضى. كان والدى هو كبير العائلة وكبير المكان إذ كان عمدة البلد، وكان لى ستة من الإخوة، ولم تكن أمى تعمل. كان منزلنا يستقبل الناس من القرية والقرى المجاورة ممن يبحثون عن حلول لمشكلاتهم أو المتعثرين فى الزراعة وغيرها، كانت حياتنا لا مركزية والشعب كان عنده سلام اجتماعى واحترام للكبير».

تتابع التلاوى: «كنت الأكبر بين إخوتى، الذين صاروا الآن مهندسين أو أصحاب أعمال. تلقيت تدريبًا وأنا صغيرة فى الهلال الأحمر على بعض الأعمال التمريضية، وكنت فى تواصل مستمر مع أهل القرية لأُمرّضهم، وهو ما خلق ارتباطًا بينى وبين الناس بشكل كبير، ساعدنى ذلك على أن أفهم طبيعة حياتهم ومشكلاتهم وظروفهم وقت عملى وزيرة للتضامن الاجتماعى».
بدأت بوادر التميُز باكرًا فى حياة التلاوى، فمنذ أن كانت طالبة فى مدرسة الراهبات ظلت محافظة على تفوقها وتصدرها المراكز الأولى فى التعليم، وظل شغفها بالتعليم والتقدُم لا ينقطع، تحمل التلاوى ذكريات طيبة عن مدرستها التى تقول عنها: «كانت من أقدم المدارس الفرنسية فى المنيا، تعلمنا فيها الكثير من المبادئ الأخلاقية والقيم النبيلة التى لا تنسى، كانت هناك حصص إضافية للحديث عن الأخلاق، وكان جزء من الأموال التى ندفعها كمصروفات للمدرسة، يصرف كتبرعات على مدارس أخرى يدخلها البسطاء، تعلمنا منهم عدم الإهدار وترشيد النفقات، وعدم التباهى بما نملك، ومن ثم تعلمت التواضع والتسامح من هذه المدرسة فى طفولتى».

تستطرد التلاوى: «أكملت الدراسة حتى المرحلة التوجيهية، إلا أن أبى رفض أن أُكمل المرحلة الجامعية، كان ميسورًا ويرى أن ابنته ليست بحاجة للعمل، لكننى كنت مُصرّة على إكمال التعليم حتى المرحلة الجامعية، فأعدت الدراسة فى المرحلة التوجيهية ثلاث مرات إلى أن وافق أبى أخيرًا على التحاقى بالجامعة، فانتقلت إلى القاهرة مع بعض إخوتى بعدما اشترينا منزلًا هناك، وبدأت الدراسة فى الجامعة الأمريكية».
درست العلوم السياسية فى الجامعة الأمريكية، لكنها وفى ظل حكم الرئيس جمال عبدالناصر كانت قلقة من ألا تستطيع الالتحاق بالخارجية فى ذلك الوقت، ومن ثم حصلت على ليسانس فى إدارة الأعمال، وحينما تخرجت فى الجامعة، أعلنت الخارجية عن امتحانات للدبلوماسية وتقدمت لها. تحكى التلاوى ذكرياتها عن تلك الفترة قائلة: «حينما دخلت الامتحان وكانت معى فتاة أخرى، صعق وزير الخارجية حينما رأى بنتين فى امتحان الخارجية، وحتى عندما تم قبولى ظل الوزير، وكان وقتها محمود رياض، رافضًا لخروجى للعمل خارج مكتبه، وظل يُميز فى التعامل بينى وبين زملائى من الرجال، وحينما تحدث حركة نقل للخارج، كان يتم استثناء البنات بقرار شفوى. ضقت ذرعًا بهذا الأمر وقلت لمدير المكتب إننى لا أريد العمل فى المكتب، وإن كانت هذه الطريقة وسيلة لمنع البنات من الالتحاق بالخارجية فهذا غير صحيح. بعد ذلك بدأت العمل فى إدارة المؤتمرات والمنظمات مع السفير إسماعيل فهمى».

تعرفت على زوجها فى الشارع.. وعاشا قصة حب تكللت بالزواج

تقول: بعد ١٠ سنوات، تغير الوزير، ومن جاء بعده سمح للسيدات بالعمل خارج مكتبه، تمت ترقيتى استثنائيًا لدرجة سفير وكنت السيدة الوحيدة، ولكن بعد ذلك قيل لنا لن يسمح لكم أبدًا كسيدات برئاسة بعثة للسفارة فى الخارج أبدًا، وكان الرئيس مبارك هو من كسر هذه القاعدة معى؛ إذ كنت أول سيدة سنة ١٩٨٧ ترأس بعثة فى الخارج، ومن وقتها فُتح الباب بشكل عادى للسيدات.
الأربعون عامًا من العمل الجاد فى مناصب مهمة مصدر اعتزاز وفخر من قبل التلاوى إلا أن ثمة محطات تعتز بها بشكل أكبر، وإنجازات كانت لها اليد العليا فيها.. توضح: «فى كل منصب توليته سعيت لإحداث تأثير وتغيير مهم.
فى الأمم المتحدة كنت ممثلة لمصر فى اللجان المختلفة، وحينما تم تعيينى فى فيينا فى مجلس حكماء الطاقة النووية، أدخلت اتفاقية لمساعدة القارة الإفريقية باستخدام الطاقة النووية السلمية، كانت الاتفافية معمولًا بها فى كل القارات عدا إفريقيا، بحجة أن القارة الإفريقية غير مؤهلة، فقلت لهم هذا فكر استعمارى، فإن كانت هناك تكنولوجيا جديدة يمكن أن تسد فجوة التأخر فلم لا نستخدمها؟ وبالفعل تمت الموافقة على الاتفاقية، وكانت نتيجتها أنه كل عام تعقد دورة إفريقية يتم فيها انتداب عدد من المسئولين فى الدول الإفريقية للتعليم على الليزر فى النواحى الطبية والتنموية والغذائية.
تضيف التلاوى: «أيضًا أدخلت تعديلًا فى القانون الدولى الإنسانى خاصًا بحق التنمية وقت الصراع بين الاتحاد السوفيتى وأمريكا، وتأثير هذه العلاقة على المشروعات التنموية فى البلدان النامية، كما أدخلنا بندًا على جدول أعمال الأمم المتحدة سنة ١٩٦٨ لتنظيم الأسرة وكنا الدولة التى أرست الاهتمام بتنظيم الأسرة منذ الستينيات، والذى تراجع حاليًا خصوصًا أثناء فترة حكم جماعة الإخوان، وما روجوا له من مفاهيم دينية مغلوطة».
وفى ظل ذلك الخط العملى، كانت الحياة الأسرية للتلاوى قد تبينت ملامحها؛ ففى عام ١٩٦٤ تزوجت من الدكتور على رحمى، الذى كان ضابطًا بالجيش، وأنجبت ابنتها الوحيدة فى عامها الأول من الزواج. تقول التلاوى: «زوجى على رحمى كان ضابطًا فى الجيش، خاض معظم الحروب، آخرها كانت حرب اليمن التى كتب عنها الدكتوراه. تعارفنا فى الشارع مصادفة حينما حدث عطل فى سيارتى، ووجدت شخصًا يسألنى إن كنت بحاجة إلى مساعدة، وساعدنى فى إصلاح السيارة ثم عشنا قصة حب طيلة عامين تكللت بالزواج. وهو شخص متفتح، كثيرًا ما دعمنى فى حياتى المهنية، حينما كنت أتقاعس عن العمل أو السفر يشجعنى ويطالبنى بإكمال دورى وتحمل المسئولية والحفاظ على اسمى، «الرجال هذه الأيام أقل تحررًا عن الماضى لأسباب عدة منها التعليم والفتاوى الدينية وعدم وجود رادع».
وترى التلاوى أن ما يحدث حاليًا من رفض البرلمان مشروع تجريم النقاب يدل على هذه العقلية المنغلقة التى باتت من سمات الرجال فى هذه الأيام، ومثالًا على الفكر المقزز الذى غزا مجتمعنا؛ فالنقاب شكله مخيف ومقزز، ومن حق الدولة أن تفرض فى مؤسساتها الحكومية قوانينها على العاملين بها.
تستطرد التلاوى: «بعد أن أنجبت ابنتى، حدث حمل مرة أخرى إلا أنه لم يتم بسبب حدوث انفجار فى الرحم، وبالتالى لم أنجب سوى ابنتى. الحقيقة لم يكن الزواج أو الأمومة عائقًا لى، هناك تعب ومسئولية أكبر بالطبع لكن الأمور تستقر بتنظيم الوقت جيدًا والفصل بين وقت العمل ووقت الأسرة.

فصل فى عهد عبدالناصر.. طفرة مع السادات.. نكسة خلال حكم مرسى.. وإيمان بـ«دور السيسى»

التلاوى التى تركت مؤخرًا رئاسة منظمة المرأة العربية، منشغلة حاليًا فى تجميع أوراقها لكتابة مذكراتها. تقول: «مررت بتجارب كثيرة فى حياتى سواء من خلال العمل دبلوماسية أو وزيرة أو فى رئاسة الأسكوا ولجنة الدستور والأمم المتحدة وعضويتى فى لجنة الانتخابات، فضلًا عن موقفى من جماعة الإخوان ومقابلتى الرئيس المعزول مرسى ثلاث مرات، وهذا الموقف الذى سنذكره دائمًا للرئيس السيسى، أنه خلصنا من هذه الجماعة التى كانت ستشوه الشخصية المصرية».

مواقفها مع الرؤساء بدأتها بلقاءاتها المتكررة مع مرسى الذى تقول عنه: «كان رجلًا عاديًا لكنه لا ينفذ شيئًا، والكلام معه تضييع للوقت. اقترحت له بعض الأشياء بخصوص دور المرأة فى البرلمان، كان يريد إلغاء المجلس القومى للمرأة ولكن بعد ثلاث مقابلات عرفت أنه ليس صاحب القرار، كان يريد تحويله لمجلس الأسرة، قلت له ما الحساسية فى المرأة، قال المرأة يعنى الأسرة، فقلت له احتياجات المرأة غير احتياجات الأسرة، ثم أين هى القوانين التى تهتم بصالح الأسرة؟».
تتابع: الرئيس مبارك أعتز بموافقته على أن أكون أول رئيسة بعثة للخارج. كنت أعمل مع السيدة سوزان مبارك فى المجلس القومى للمرأة حينما طلب كوفى عنان أن أكون أول سيدة عربية ترأس الأسكوا، فرفضت سوزان لكن حينما اتصل كوفى عنان بالرئيس، وطلب منه أن أسافر وافق الرئيس، وأقنع سوزان بالبحث عن خليفة لى فى المجلس القومى للمرأة. أما الرئيس السادات فتقول عنه التلاوى: «كان سابقًا لعصره ومساندًا للمرأة بالفعل، كانت عقليته متفتحة. مرة دخلت عنده فى البيت وكان يتحدث مع رفعت المحجوب ويقول له مازحًا: جيهان تريد ثلاثين كرسيًا للسيدات فى البرلمان، أنا لا أوافق لكن أعطيهم لها. وتذكر التلاوى ما حدث وقت حكم الرئيس عبدالناصر حينما صدر قرار بفصلها من عملها فى الخارجية على أساس أنها من أسرة إقطاعية، ففى ثورة التصحيح كانوا يُخرجون من الخارجية كل أولاد الإقطاعيين». تقول التلاوى: «قابلته فى أحد المؤتمرات التى كنت أنظمها له، وعندما سمع حكايتى اكتشفت أنه لم يكن على علم بما يجرى، قلت له كيف يمكن أن أُشكِّل أنا وأسرتى ثورة مضادة بينما أنا أكبر إخوتى ووالدى توفى وليس لدينا أى قوة للوقوف ضد الثورة، وأخشى أن يكبر إخوتى على كراهية البلاد لإحساسهم بأنهم تعرضوا للظلم، واستجاب لى حينما عرف الحقيقة وأعادنى للخارجية».
وعلى امتداد هذا الخط الحافل بالإنجازات الخاصة والعامة، ثمة خيبات أو أمنيات مجهضة لم تعلن عن نفسها فى حياة التلاوى، طموحات مغايرة تم وأدها أو لم تتحقق.

تقول التلاوى: «نعم، كان طموحى فى طفولتى أن أكون طبيبة، ولكن نظرًا لأننى ظللت طيلة ثلاثة أعوام متتالية أحاول إقناع أبى بأن يتركنى لأكمل تعليمى الجامعى، وبعدما وافق أخيرًا، كان باب التنسيق قد أغلق أبوابه، فالتحقت بالجامعة الأمريكية وتابعت الدراسة فى مسار العلوم السياسية».
تتابع: «هناك نقطة حزن لا تمحى من داخلى، فحينما توفيت والدتى كنت سفيرة فى اليابان ولم أستطع أن أراها قبل أن تموت، وحينما عدت كانت قد دفنت. دائمًا أذكر هذا اليوم. ولكن بشكل عام أنا راضية عن حياتى ولم أندم على أى فعل اقترفته باستثناء تنازلى عن ٢٠٠ فدان كانت ملكًا لى حينما طُلب منى أن أسافر إلى الأمم المتحدة، فقررت أن أتنازل عنها لظروف السفر. زعلت عليها جدًا لأننى أحب الزراعة وأحب الفلاحين، وكان ممكن الآن بعد المعاش أن أزرعها، وكان ثمنها وقتها ٦٠٠٠ جنيه».