رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متحف "أندرسون" من منزل مهجور لقِبلة تأسر المخرجين عربًا وأجانب

متحف جاير أندرسون
متحف جاير أندرسون

لم يكن اختيار مكان وصلة الرقص التي قدمتها "شفيقة" أمام أفندينا في الغرفة التي يكسوها البساط الفارسي ويشغّلها الأثاث الدمشقي وغنائها "بانوا بانوا على أصلكوا بانوا" من قبيل الصدف، حيث أراد المخرج علي بدر خان أن يحمل المشهد النقيضين، انكسار شفيقة وجماعتها، والثراء الذي يرنوا به "أفندينا" وحاشيته.. كل هذا استطاع منزل جاير أندرسون أن يُقدمه كأداة سهلة تُعين أي مبدع ليصل بالصورة كما ينبغي.
"بدرخان" ليس وحده من اختار هذا المنزل ليكون مسرحًا تدور عليه أحداث عمله، فكذلك كان التوت والنبوت، والحرافيش، وسعد اليتيم، وكل أفلام تلك الحقبة اقتبست منها السينما الأجنبية، فكان تصوير فيلم "the spy who loved me" أحد أجزاء سلسلة "نمس بوند" الشهيرة، ومنذ تلك الفترة حتى وقتنا هذا لا يخلو المنزل من كاميرات التصوير، فخرج منه أيضًا الناظر علاء الدين، و"جواب اعتقال" مؤخرًا.
منزل "أندرسون" الذي حُفر في ذاكرة تراثنا، في واقع الحال هو ليس بمنزل عادي، إنما أصبح متحفًا ومزارًا لما يحوي من آثار، وتحف نادرة من كل دول العالم، وكان في الأساس بيتًا لمجموعة من تجار جزيرة كريت اليونانية، وجاءوا مصر في القرن السادس عشر للتجارة والعمل، وبعد إسلامهم أنشأوا منزلًا على الطراز الإسلامي يجاور مسجد أحمد بن طولون بمنطقة السيدة زينب، وبعد استقرارها أخذوا منزلًا يجاور باقي الأسرة.
ثم جاءت الحرب العالمية فكانت جرس إنذار برحيل العديد من الجاليات الأجنبية من مصر، لكن ظل المنزل على حاله يحمل اسم "الكريدلية" نسبةً إليهم، وهُجرَ المنزل وبال حاله، لكن لقربه من المسجد التاريخي اضطرت الحكومة وقتها والقصر الملكي أن يرممانه حتى يسكنه علماء وأئمة المسجد، إلى أن أتى الچنرال "جاير أندرسون" وكان أحد لواءات الجيش الإنجليزي ولمهاراته في الطب استعان به الملك فاروق ليكون طبيبه الشخصي.
حاول "أندرسون" الاستفادة من وجوده في مصر بالطريقة التي يهواها، وهي أن يجمع التحف والآثار من كل دول العالم، وساعدته مرافقته للملك في رحلاته في أن يقتني المتعلقات الشخصية والمفروشات من دول عدة.

وصل بـ"أندرسون" الحال أن يعطي كل غرفة اسم دولة صممت على الطراز الخاص بها، فكانت واحدة دمشقية وأخرى فارسية، تركية وهكذا حتى الهندية، منزل وأنت بداخله تشعر وكأنك تعبر البحار والمحيطات، ومع ذلك لم يسكنه "أندرسون" مع عائلته، بل كان مقتصرًا عليه مع خادمه، وخصص منزلًا آخر قطنته زوجته وابنه بالزمالك.
في كل جناح بالمنزل كان هناك مضجع خاص بـ"أندرسون" جلبه من إحدى البلدان وآخر لخادمه على نفس المستوى من الفخامة، رغم أنه كان عبدا نوبيا اشتراه الملك فؤاد وورثه فاروق عنه وأهداه لأندرسون وأحبه كثيرًا فخصص له العديد من الممتلكات.

"من عرف لغة قوم أمن مكرهم".. مقولة ترسخت في عقل "جاير" فأراد تعلم اللغة حتى يستطع التغلب على مكائد البلاط الملكي، ولأن القرآن الكريم أفضل سبيل لهذا أحضر معلمًا يروي له القصص القرآني، لكن اللغة الركيكة لأندرسون لم تمكنه من الفهم، فاختار أن تُحفر كل قصة على طبق من النحاس كي يفهمها جيدًا.
لم تُستثن الآثار الفرعونية من حب لواء الجيش الإنجليزي، فاستحوذت هي الأخرى على قلبه حتى إنه تعلم النحت خصيصًا تأثرًا بما نهجه الفراعنة، فصمم قناعًا منحوتًا له ولزوجته، ولابنه، والخادم، حتى الجرو الخاص به "فضل" كرمه وأعطاه لقب "أفندي" رسميًا من الملك، وبعد موته نحت له لوحًا من الجرانيت تحمل اسمه وتاريخ الميلاد والوفاة.
كل ما في هذا المكان صُنع بإتقان وإخلاص، لذا ظل المنزل طيلة هذه السنوات يأسر قلوب الزوار من كل دول العالم.