رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القديس الأخير لأول مرة.. خريطة ممتلكات البابا كيرلس السادس

جريدة الدستور

-البابا كيرلس كان حريصًا على توفير أموال الكنيسة حتى فى «أعواد الكبريت»

فى أيامنا هذه كثُر الحديث عن ممتلكات المطارنة والأساقفة والكهنة والرهبان، وقد وصل بنا الحال إلى ما وصلنا إليه من ترد ملحوظ ومُحزن فى أحوال الكنيسة القبطية تلك التى سبق أن وصفها المؤرخون بأنها «كنيسة زهد وكنيسة نسك».
وفى هذا المقال أود أن أسجل بكل أمانة ودقة ممتلكات البابا كيرلس السادس «١٩٠٢ - ١٩٧١»، البطريرك ١١٦ الذى جاء إلى الكرسى المرقسى طبقًا للقوانين الكنسية العريقة، وقد جلس على الكرسى المرقسى كرسى الإسكندرية طوال الفترة «١٠ مايو ١٩٥٩ - ٩ مارس ١٩٧١»، وقد عاصرته عن قُرب منذ ٢٢ يونيو ١٩٥٩ «وأنا أبلغ من العمر ٩ سنوات»عندما أقام صلاة فى صحراء مريوط كبداية لإحياء تلك المنطقة الرهبانية التى كانت قد اندثرت فى القرن الحادى عشر الميلادى، وحتى رحيله المحزن فى يوم الثلاثاء ٩ مارس ١٩٧١ «وأنا أبلغ من العمر ٢١ عامًا».

حذاء واحد.. السفر بالقطار.. والتنقلات بسيارة مملوكة لأحد المطارنة

«١»- لم يكن يملك ذلك البطريرك العظيم - لأنه كان راهبًا حقيقيًا - سوى حذاء واحد فقط، ولم يستطع أحد أن يثنيه عن رأيه ويُحضر له حذاءً جديدا.
«٢»- لم يكن يملك سيارة، فالسيارة التى كان يستخدمها كانت سيارة قديمة لأحد المطارنة الذين سبقوا ورحلوا، وظل يستخدمها فى تنقلاته داخل القاهرة وبين القاهرة والإسكندرية وداخل الإسكندرية وأيضًا بين القاهرة وبقية المحافظات.
وعندما كان يحضر إلى الإسكندرية ويشاهد الناس- مسلمين وأقباطا - سيارة البابا تسير فى شارع «كنيسة الأقباط» كانوا يصطفون على جانبى الطريق فى وسط تهليل غامر وسعادة حقيقية.
كان فى مقدمة السيارة على اليمين العلم المصرى وعلى اليسار علم البطريركية، ولم تكن تحيط به عربات أو دراجات الحراسة، لأنه كان رجل صلاة حقيقيا، يصلى من أجل الجميع، وكان مسنودًا بالعناية الإلهية الحقيقية.
اليوم نشاهد سيارات، أشكالا وألوانا، أقلها ماركة مرسيدس وبعضها تجاوز ثمنها ٢ مليون جنيه! ولأنهم يخشون غضب الشعب فخصص لها أماكن معينة- داخل الكنائس والمطرانيات- بعيدًا عن نظر الشعب الفقير.
«٣»- فى عصره كانت الكنيسة فقيرة جدًا، وهذه كانت نعمة حقيقية من ربنا، نعم كانت فقيرة فى المال ولكنها غنية فى الروحانية وفى الفضائل وفى النعمة الإلهية.
حدث عندما تشكل وفد بابوى عام ١٩٦٨ للسفر إلى روما لمقابلة البابا بولس السادس بابا الفاتيكان لتسلم بعض من رفات القديس مرقس، كان من أعضاء الوفد البابوى سيادة المستشار فريد الفرعونى «١٩٠٥ - ١٩٩٨» - وكيل مجلس ملى الإسكندرية - فذهب إلى البابا كيرلس السادس وقال له: «يا قداسة البابا.. من البروتوكول ونحن نتسلم رفات القديس مرقس من بابا الفاتيكان، أن نقدم له هدية باسم الكنيسة القبطية» - وهذه الرواية نقلًا مباشرًا من سيادة المستشار لى - فقال له البابا: «يا حبيب أبوك.. نجيب منين ونحن كنيسة فقيرة؟»، فقال له المستشار: «اترك لى هذا الأمر وسوف أرتب المناسب»، قال له: «طيب يا بنى.. ربنا يقويك ويباركك».
ذهب المستشار إلى صديقه المهندس رمسيس ويصا واصف «١٩١١ - ١٩٧٤» بالحرانية، وحدثه فى هذا الموضوع، فما كان من المهندس رمسيس إلا أن قام بتسليمه سجادة كبيرة عليها نقش لرواية يوسف الصديق.
تسلم سيادة المستشار السجادة وأراها للبابا كيرلس السادس الذى بارك هذا العمل، وتم تسليم السجادة للبابا بولس السادس، وما زالت السجادة محفوظة بمتحف الفاتيكان كهدية من الكنيسة القبطية.
«٤»- كان يحرص على توفير أموال الكنيسة - لأنها كنيسة فقيرة - فقد حدث معى فى يوم من الأيام عندما كنت أصلى معه فى الهيكل أن قمت بإيقاد ثلاثة شمعدانات متباعدة بثلاثة عيدان كبريت. حضر إلىّ - وأنا طفل صغير - وقال لى: عندما تستهلك ثلاثة عيدان كبريت سيجىء يوم ولا نجد ما لا نشترى به كبريتا!! وعلمنى كيف يمكننى إيقاد ٣ شمعدانات بعود كبريت واحد. بطريرك يريد أن يوفر عود كبريت للكنيسة!! الأمين فى القليل أمين أيضًا فى الكثير، والظالم فى القليل ظالم أيضًا فى الكثير.
«٥»- كثيرًا ما كان يحضر من القاهرة إلى الإسكندرية بقطار مراكز وعند وقوف القطار بمحطات السكك الحديدية المختلفة كان من خلال نافذة القطار يبارك الشعب الذى وقف لتحيته ونوال بركته لأنه كان مبروكًا فعلًا، وعند وصوله الإسكندرية كان كثير من الأحيان يذهب إلى الكنيسة المرقسية من محطة السكك الحديدية مترجلًا على قدميه، ليبارك كل من يقابله والناس فى سعادة غامرة.


عدد قليل من «ملابس الخدمة البيضاء».. والإقامة فى مقرات قديمة

«٦» حدث وقت أن كان راهبًا فى طاحونة الهواء بمصر القديمة، علم أن الكنيسة اليونانية تسعى للاستيلاء على منطقة القديس مينا بمريوط حُبًا فى القديس مينا العجايبى، فذهب الراهب مينا البراموسى المتوحد إلى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية وتقابل مع مفتش الآثار الأستاذ بانوب حبشى «١٩١٣ - ١٩٥٦» والأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨ - ١٩٧٩» خبير رسم الخط الفرعونى، لمساعدته فى الإقامة بالمنطقة حتى يثبت ملكية المنطقة للكنيسة القبطية.
وفى أثناء المحاولات لتحقيق أمنيته، كانت استجابة السماء أسرع، إذ تم اختياره بطريركًا للكنيسة القبطية، ومن ثم تحققت أمنيته وآلت منطقة مريوط إلى الكنيسة القبطية.
كان أول عمل يقوم به هو الصلاة فى صحراء مريوط - حيث قبر القديس مينا - فى ٢٢ يونيو ١٩٥٩، ولأنه كان يملك قلبًا كبيرًا ومحبًا وأبوة صادقة فطلب من أحد أبناء الكنيسة بالإسكندرية أن يصطحب الطفلين مينا بانوب حبشى وميلاد بانوب حبشى نجلى الأستاذ بانوب حبشى - الذى كان قد رحل فى عام ١٩٥٦ - إلى الدير للصلاة مع البابا كيرلس السادس. كان أبًا حقيقيًا ووفيًا لكل من تعامل معه.
«٧» أشهد - ويشهد معى بعض شمامسة الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية - أنه لم يكن يملك سوى عدد قليل من ملابس الخدمة البيضاء التى يصلى بها داخل الكنيسة، ولم يكن فى رفاهية تغيير الملابس بأشكال وأنواع شتى فى المناسبات الدينية المختلفة والتى لا تتناسب مع الحياة الرهبانية الصادقة ولا النسك الرهبانى.
«٨» أقام فى مقر بابوى قديم بالإسكندرية منذ البابا بطرس الجاولى «١٨٠٩ - ١٨٥٢» البطريرك ١٠٩، ونفس الشىء فى مقر بابوى قديم بالأزبكية، وعندما أعانه الله لبناء الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالعباسية لم يفكر فى إقامة مقر فخيم بتكاليف باهظة بمنطقة العباسية، لأنه كان يدرك أنه راهب فقير ورسالته تكمن فى خدمة الناس وليس التعالى عليهم، كما لم يكن له مقرات أخرى فى أنحاء مختلفة بالقاهرة والإسكندرية ولا خارج مصر، والتعبير الكنسى الصادق الذى يُطلق على المقر البابوى هو «القلاية البطريركية»، لأن ساكنها راهب بسيط. من يفهم هذا الكلام!!.
«٩» عندما بدأ فى بناء الكاتدرائية بالعباسية - كانت الكنيسة فقيرة - فكانت مساهمات الشعب بمبالغ ٢٥ قرشا، ٥٠ قرشًا، جنيه واحد. وما زلت محتفظا بإيصالات تلك المساهمات التى أسهم بها والدى. وبعد انتهاء احتفالات افتتاح الكاتدرائية عام ١٩٦٨ ذهب إليه البعض يهنئونه على روعة الاحتفال، فقال لهم: «يا أولادى ما رأيتموه لا يمثل شيئا بجانب روعة الحياة فى الطاحونة». رجل صلاة حقيقى. كان يملك روح صلاة حقيقية، ففى وسط أحزانه وأحزان شعبه كان يصلى بلجاجة ويقول: «فى ضيقتى صرخت إليك يا الله فاستجبت لى».
ولكى لا يظن أحد أننى أقدم عظات خادعة: أنا لا أملك سيارة، ولا أملك تليفزيونا، وأملك تليفونا محمولا مجردا يستقبل ويرسل مكالمات فقط دون أية إمكانيات أخرى «يُطلق عليه تليفون غبى» وقد أرغمت على إحضاره فى أغسطس ٢٠٠٧ بضغط من عميد هندسة الإسكندرية عندما أصر على تعيينى رئيسًا لقسم الرياضيات، وكنت مصممًا على الرفض ولم أجد منفذًا للهروب، ولا أملك ساعة يد، بل أملك ساعة إيقاف بسيطة Stop Watch ثمنها بالتحديد ٧٥ جنيهًا كنت قد أحضرتها للاستعانة بها وقت إلقاء المحاضرات الجامعية، لا أملك جهاز تكييف فى المنزل القديم الذى وُلدت فيه منذ نحو سبعين عامًا، ولا حتى مروحة كهربية صغيرة!! أى أحيا فى فقر اختيارى أحببته لنفسى كثمرة ما رأيته فى أبى البابا كيرلس السادس.