رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صراصير الأرض.. جائحة صنعها الإهمال


ظاهرة صنعها الإهمال، واستفحلت بالتراخى، حتى أصبحت داءً استعصى على الحل، أربكت الشارع المصرى، وأحدثت خللًا فى ميزانه الاجتماعى، واستسهل كل صاحب مهنة ما يأتى من ‏ورائها من رزق قليل، يسد به رمقه، ما دام يمنع عنه القيام مبكرًا، والذهاب إلى ما يعتبره شاقًا، ويمنع بها عن نفسه غائلة البطالة والقعود عن العمل يومًا ما.. تُنافسك فى السير، تُربك خطوتك، ‏وتُزاحم المارة والسيارة، وتمرق من أمامك، ومن خلفك، وعن يمينك وشمالك، وكأنها بعض صراصير الأرض المتوحشة، انتشرت أسرابها، فى جائحة أصابت المجتمع بأكثر من داء.. عن التوك ‏توك أحدثكم.

بدأ ظهور التوك توك فى الهند أوائل ستينيات القرن الماضى، ثم ظهر فى البلاد النامية ذات الكثافة السكانية العالية، لانخفاض تكلفته وقدرته على السير داخل القرى، مخترقًا دروبها الضيقة، ‏وحوارى المناطق العشوائية، حتى انتشرت هذه الوسيلة فى جميع المحافظات المصرية خلال سنوات قليلة‏.‏. وتفيد بعض التقارير بوجود أكثر من مليون توك توك فى مصر، وقد أعلن الجهاز ‏المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن زيادة أعداد المركبات وأنواعها، بظهور أنواع جديدة منها، خاصة التوك توك، وقد أشارت شعبة مستوردى الدراجات والتروسيكلات بالغرفة التجارية بالقاهرة، ‏إلى أن مصر تستورد سنويًا نحو خمسين ألف توك توك، بسبب زيادة الطلب عليه فى المناطق الشعبية والشوارع الضيقة والقرى والنجوع، حيث يخدم أكثر من عشرين مليون مواطن، وقد وصل حجم ‏المعاملات التجارية فى هذا النشاط إلى أكثر من ثلاثة مليارات جنيه.‏

كانت أزمة البطالة التى تزامنت مع استيراد التوك توك، من أهم الأسباب التى جعلت الشباب يتجهون إلى العمل سائقين على هذه المركبة، واستطاع بعضهم، من مكسبه، أن يتزوج بعد أن أصبح ‏يحقق أكثر من ثلاثمائة جنيه، دخلًا يوميًا على الأقل، فى عشر ساعات عمل.. وكثير من هؤلاء الشباب يحملون مؤهلات جامعية.. دون أن نلتفت إلى أن هذا الوافد الجديد قد أصبح خطرًا على المهن ‏والصناعات، فى وقت تعانى فيه بعض المصانع من نقص الأيدى العاملة، نتيجة للتمرد على «يومية» العامل فى المصنع، التى لا تساوى حتى نصف «يومية» التوك توك، الذى أصبح شريكًا فى ‏جريمة تجريف المهارات الفنية والصناعية، بالإضافة إلى أنه- أى التوك توك- أصبح «ديليفرى» لنقل المخدرات، من تاجر الجملة إلى بائعى القطاعى وصغار الموزعين، ناهيك عن حوادث القتل ‏والخطف والسرقة بالإكراه، التى كان بطلها، سائق توك توك. وقد شهدت محكمة القضاء الإدارى دعوى بإلغاء تسيير هذه المركبات فى محافظات مصر قاطبة، جاء فيها، أن التوك توك أدى إلى ‏زيادة معدلات التسرب من التعليم، بعد أن أسهم بشكل، لا يمكن تجاهله، فى خروج أعداد كبيرة من الأطفال، من سن تسع سنوات، من التعليم، واللجوء مباشرة إلى قيادة التوك توك، التى توفر له ‏مصدر دخل سريعًا ومربحًا ووسيلة للهو والترفيه على أنغام الموسيقى أغلب اليوم.‏

ولفتت الدعوى إلى أن إحدى كبريات المشكلات التى تسبب فيها ظهور التوك توك فى مصر، تدهور الصناعات الحرفية والعمالة، فقد أصبحت قيادة التوك توك مصدر دخل مربحًا، ولا يتطلب ‏جهدًا بدنيًا، مقارنة بالأعمال الحرفية، كالنجارة والحدادة وأعمال البناء والسباكة، ويظهر ذلك واضحًا بشكل كبير فى مجال المعمار، حيث يشتكى أغلب العاملين فى قطاع المقاولات، من نقص العمالة ‏الماهرة الخاصة بمجال أعمال البناء، وأكدت أنه بالرغم من استيعاب التوك توك أعدادًا لا يمكن حصرها من الشباب الباحث عن فرص عمل، فإنه بالنظر للأمور بشكل أوسع، فإن دمج هذه الأعداد ‏الهائلة فى قطاع خدمى، يُعد خسارة، فى حد ذاتها، لطاقة كبيرة من المفترض أن تتم الاستفادة بها فى القطاعات الإنتاجية، وبمعنى آخر فإن هذه الأعداد الرهيبة من الشباب تحولت إلى قطاع ‏‏«استهلاكى» جديد، يُضاف إلى قائمة «الـمستهلكين»، وليس إلى قائمة «المنتجين»، وبالتالى لا يمثل هذا القطاع أى إضافة لإجمالى الناتج المحلى.. بالإضافة إلى أن سياسات الحكومات المتعاقبة ‏أصبحت شريكًا فيما يحدث، بالنظر إلى التوك توك على أنه مركبة غير مطابقة للمواصفات الأمنية، لعدم اتزانه وقلة صلابة هيكله الخارجى، وعدم وجود أبواب له أو أحزمة أمان، مما يعرض ‏الركاب للخطر فى حالة الحوادث، فمنعت ترخيصه، بالرغم من أهمية ذلك، كإجراء أمنى، ينظم سير هذه المركبات، إلى جانب الاستفادة من عوائد ترخيصه فى دعم خزانة الدولة، شأنه شأن أى ‏مركبة تخضع للترخيص، ما دامت تسير على عجلات.‏

لقد تسبب التوك توك فى أزمة نفسية لسائقى التاكسيات، بعد أن خطف منهم الضوء، واستبدل به أولياء أمور تلاميذ المدارس الأتوبيسات والتاكسيات، ناقلًا أطفالهم، من وإلى المدرسة، لسرعته فى ‏تجاوز أزمة زحام المرور التى لا يستطيع أن يتفاداها سائق التاكسى، كما استسهل الصغار والكبار ركوبه، بديلًا عن المشى، حتى ولو كان الطريق لا يتعدى أمتارًا قليلة.. قال لى سائق تاكسى، مر ‏بى بسرب من «التكاتك»: «فى الوقت الذى رفعت فيه الحكومة رسوم تراخيص سياراتنا، تترك هذه الكائنات تمرح فى الشوارع، بلا ضابط أو رابط، تُزاحم الناس فى طريقها، وتُقاسمنا أرزاقنا.. ‏وببلاش.. تخيل لو عندنا مليون توك توك فقط، وترخيص الواحد ألف جنيه فى السنة، الحكومة هتدخل مليار جنيه لخزينة الدولة كل عام.. ده وحش، ولا هى مستغنية؟!».‏

الواقع أن كثيرًا من الأنظمة المرورية ترفض ترخيص التوك توك، لاعتقادها بعدم صلاحيته للسير فى طرق المدينة، وبالرغم من ذلك لم يمتنع الكثير من السائقين عن قيادته، وحتى الأطفال، كانت ‏هذه المركبة وراء كثير من حالات التسرب الدراسى، وأصبح من الشائع رؤية وحداته تنطلق فى أنحاء المدن، دون لوحات معدنية، تدل على هويته، أو ترخيص يحد من جرائم السرقة بالإكراه ‏والاختطاف والاغتصاب، مما شجع الكثير من الخارجين على القانون على استخدامه بديلًا عن الدراجة النارية، التى صارت تحت الرقابة والمتابعة من رجال الشرطة والمرور.. ولذا، لا بد أن تكون ‏مصر على مستوى الدول التى رأت فى هذه الظاهرة أمرًا واقعًا، وأدركت أن إصدار لوحات رقمية ورخصة تسيير لعرباته، سوف يساعد على تقليل المشاكل الناتجة عنه، بالإضافة إلى تحصيل ‏الضرائب، ورسوم التراخيص التى تعود على الدولة بالفائدة، فى هذا الوقت الحرج الذى تمر به البلاد.. هذه واحدة، أما الثانية، فهى: لماذا لا نشجع تصنيع «السيارة المينى»، ذات الأبواب، والتى ‏تعمل بالكهرباء بدلًا من البنزين، والتى وقف وراءها مبتكر مصرى، يمكن أن تتبناه الهيئة العربية للتصنيع، فعلى الأقل نُشجع مُنتجًا مصريًا، ونوفر على الدولة ملايين الدولارات المطلوبة سنويًا ‏لاستيراد وحدات جديدة من التوك توك، قد يتم التحايل على التقليل من وارداتها، باعتبارها قطع غيار، مع أنها فى الحقيقة، وحدات توك توك مُجزأة، يتم تجميعها فى مصر.. فهل نفعل؟.. حفظ الله ‏مصر من كيد الكائدين.. آمين.‏