رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هدية من الشيطان

جريدة الدستور

للربيع عواصف
كان قلبها يشبه البيت الدافئ، تشعر به عندما تمر من أمامه فى المساء وتختلس النظر من شبابيكه المضاءة لتجد أطفالًا يتحلقون حول كتبهم المدرسية، بينما تعد لهم والدتهم وجبة العشاء.
فى الربيع شرعت الشبابيك والأبواب على الحقول المجاورة وأذنت للشمس ولنسمات الهواء بمداعبته، متناسية أن العواصف العنيفة تهب أيضًا فى الربيع.
فى قلبها اليوم بعض الصور وبعض الكلمات.. وأرواح مرممة بلاصق.
غربة
كانا يستمعان لأغنية فيروز «نسم علينا الهوا من مفرق الوادى.. يا هوا دخل الهوا.. خدنى على بلادى». وهو يعقد ربطتى حذائه قبل أن يودعها ليعود لعائلته كما كان يحدث فى كل مرة بعد أن يلتقيا فيها سرًا.
«إنت بلادى» قالت له هامسة وهى تودعه وتدس رأسها فى صدره وتضمه إليها بقوة.
ثوانٍ معدودات، ثم أحاطها بذراعيه وربت على كتفيها بأصابع مترددة، ومضى.
البيجاما الحمراء
لم تكن تلك هى المرة الأولى التى ينهال عليها بالضرب، ولكنها كانت المرة الأولى التى لم تعد تشعر فيها بأى إحساس. لم تتحرك من مكانها، لم تدفعه عنها، لم تبك، لم تصرخ، لم تستنجد، تدفن رأسها بين ركبتيها وهى تتلقى الصفعات والركلات ببرود عجيب كأنها حجر.
كان حبه قد مات داخلها ولكنها كانت تنتظر، كما تنتظر أوراق الخريف هبة هواء لتسقط. وضعها استثار غضبه أكثر فأكثر فما كان منه إلا أن أمسك بذراعها وشدها منه كى ينفذ إلى وجهها، لكنه لم ينجح والحجر بقى ثابتًا فى مكانه.
سمعت صوت تمزق. كان كم البيجاما الحمراء الساتان يتمزق منفصلًا عن الكتف. اندفعت الدموع فى عينيها وهى تتذكر كم حلمت بها، كم مرة وقفت أمام الزجاج وهى معروضة أمامها تعد نقودها على المبلغ الذى معها يكفى، وكيف ركضت إلى المحل عندما قبضت أول مكافأة لها واشترتها. فجأة وكحيوان جريح وصبور لم يعد باستطاعته احتمال الألم تفجرت طاقة الغضب المتراكم داخلها، فدفعته بعيدًا عنها ثم لكمته على بطنه وخربشته من وجهه، وكلما صوب لها ضربة صوبت له اثنتين إلى أن انهار على السرير أمامها.
طقس الرضا
كالعادة، دبت بينها وبين والدتها خناقة كبيرة فلا يمكن لرأيها ورأى والدتها أن يلتقيا وخرجت على إثرها غاضبة من المنزل وهى تتمنى أن تختفى والدتها من حياتها. فى مقهى فى وسط البلد على ناصية الشارع، كانت تجلس وصديقاتها يتبادلن أطراف الحديث، والطريف عندما شاهدت والدتها تمشى على الرصيف المقابل بهمة وكأنها فى طريقها لإنجاز أمر ما والكآبة تكسو وجهها المتعب. لم تتحرك من مكانها وتركض نحوها تدعوها للانضمام إليهن، ولم تفكر فى مرافقتها ولا بمصالحتها أو الاعتذار لها. كانت تنظر نحوها من وراء الزجاج ببرود وكأنها تتابع أحد المشاهد فى فيلم سينمائى أو مسلسل تليفزيونى.
فى المساء عندما عادت ودخلت غرفتها، وجدت كتابًا ملقى على سريرها، مسرحية لشكسبير «تاجر البندقية». كانت تبحث عنها فى المكتبات لأمر ضرورى ولم تجدها.
فى تلك اللحظة تمنت أن تركع عند قدمى والدتها وتقبلهما وتقول لها «سامحينى يا أمى»، لكنها لم تفعل ذلك لأنها كانت تعلم أن والدتها ستدفعها بعيدًا عنها وهى تردد «ما بيجينى منك إلا المشاكل» وبأنه لا بد من عدة أيام من النكد ريثما تعود الابتسامة بالتدريج إلى وجهها.. ففضلت الانتظار.