رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق حسن إمام عمر جبرتى الفن المصرى

حسن امام عمر
حسن امام عمر

ثلاثة أسباب تدعو بإلحاح لاستعادة سيرة هذا الرجل الآن، أولها سبب نبيل يتمثل فى التنبيه إلى أن مئويته على الأبواب، ومرور مائة عام على ميلاد عميد الصحافة الفنية المصرية مناسبة تحتاج إلى اهتمام تقديرا لرجل ظل لأكثر من ستين سنة متصلة يتابع الحركة الفنية ويؤرخ لها ويوثق سيرة نجومها وترك رصيدا هائلا مكتوبا ومسموعا ومرئيا يعد بمثابة ذاكرة للفن المصرى لا تُمحى، وثانيها سبب غير نبيل، هو بيان ما وصل إليه حال الصحافة الفنية عندنا، حال يدعو للحسرة على محرريها وبعضهم يعتبر أنه حقق انفرادا إذا ما سبق زملاءه فى نشر بيان صحفى عام وصله على إيميله من مكتب فنانة أو مطرب شهير، أما إذا ما حصل على تصريحات خاصة من النجم فإنه يعتبر نفسه قد دخل التاريخ. «البؤس»، الذى أصبح عليه حال الصحافة الفنية وحال كثير من محرريها الذين ارتضوا بدور المتسول يجعلنا نستعيد أيام مجدها، التى يجسدها هذا الرجل.

فقد كان بيت حسن إمام عمر فى ميدان لاظوغلى هو قِبلة نجوم الفن ونجماته، وفيه كانت تتكشف الأسرار وتُصنع الأخبار، ولسنوات طويلة كانت عزومة سهرة الثلاثاء فى بيت حسن إمام عمر «مقدسة»، وكانت الشقة تضيق بالضيوف من نجوم الوسط الفنى على رأسهم شلة مسرح المتحدين وصاحبه سمير خفاجة ونجومه عادل إمام وسعيد صالح وحسن مصطفى، لا ينصرفون فى ساعات الصباح الأولى حتى يكونوا قد أتوا على آخر قطعة كباب من لفائف الأكل الشهى التى تصل من محل الحاتى الشهير فى ميدان الجيش، على حساب عم حسن.
كان الرجل يرتبط بعلاقة صداقة إنسانية مع كل نجوم الوسط الفنى ونجماته، وصلت مثلا إلى أنه استضاف فريق عمل فيلم «الزوجة الثانية» للتصوير فى العزبة التى يملكها مع إخوته فى قليوب، نعم «الزوجة الثانية» جرى تصويره فى بيت حسن إمام عمر الريفى. ووصلت مثلا أنه عندما تسربت أخبار عن تعثر مشروع الزواج بين عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى اتصل عم حسن بسعاد وطلب منها أن تذهب إليه فى بيته ليفهم منها الحقيقة، وحسب ما كتب فى أوراقه فقد اعترفت له بحبها لحليم ورغبتها فى الزواج منه، لكنها تخشى أن تتحول من زوجة إلى ممرضة، وبغض النظر عما حدث بعدها وهل تم الزواج أم لم يتم، فما يهمنا أنه كان هناك «محرر فنى» لا يتسول خبرًا.. بل يصنع الأخبار.
أما السبب الثالث، الذى يستدعى سيرة حسن إمام عمر الآن فهو فتح خزائن أسراره، حيث خصنا ابن شقيقه الإذاعى الكبير إمام عمر بأوراق عمه الخاصة بكل ما فيها من أسرار وحكايات وخطابات، وكلها تدل على أننا أمام جبرتى الفن المصرى بلا منازع.

التقى السادات بالمدرسة الإبراهيمية.. وأصبح من أقرب أصدقائه ومنافسه فى الطاولة
فى أوراق حسن إمام عمر لا بد أن تستوقفك لعبة القدر التى اختارته ودفعته دفعا إلى الصحافة الفنية وغيرت مصيره من شيخ أزهرى إلى مؤرخ فنى، فقد كان والده الشيخ الأزهرى يؤهله منذ مولده للالتحاق بالأزهر، فحفظ القرآن والمعلقات السبع وألفية ابن مالك. واستمر حسن الصغير يدرس فى الأزهر عاما كاملا إلى أن ضاق بالدراسة الدينية وبالجبة والقفطان والعمامة وقرر أن يقلد أبناء عمومته ممن يرتدون البنطلون القصير والطربوش وتحول إلى المدرسة الابتدائية وأظهر نبوغًا واضحًا واحتل المركز الثانى فى الشهادة الابتدائية على مستوى القطر المصرى، وذهب إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة الإبراهيمية، وبين أسوارها كان على موعد مع القدر، فقد اختارها زكى طليمات لتكون مقرا لمحاضرات معهد التمثيل الذى أنشأه بعد عودته من دراسة فن المسرح فى أوروبا.
واستهواه الفن، وقرر أن يكتب عنه وأرسل مقالا لمجلة «الصباح» الفنية وفوجئ بنشره وفوجئ بأنه أصبح محررا فيها بقسم السينما، الذى يرأسه المخرج الشهير فيما بعد أحمد بدرخان.. ثم رئيسًا للقسم بعد سفر بدرخان فى بعثة لدراسة السينما برعاية طلعت باشا حرب، وعطلته الصحافة عن دراسته فى كلية التجارة، لكن سحر الفن كان قد ضربه واستولى عليه وقرر مصيره ليكون حسن إمام عمر واحدا من أشهر رواد الصحافة الفنية وأهم حراس ذاكرة مصر الفنية.
فى أوراق حسن إمام عمر حتما ستتوقف أمام علاقته بالرئيس السادات، حيث بدأت صداقتهما فى فريق التمثيل بالمدرسة الإبراهيمية الثانوية، وكان الطالب الصغير حينها محمد أنور السادات مولعًا بالفن ومن هواة التمثيل، وشارك فى بعض العروض المسرحية. وعندما ذهب السادات ليؤسس دار التحرير ويصدر جريدة الجمهورية فإنه لم ينس صديقه حسن إمام عمر، فاستدعاه وأسند إليه رئاسة قسم الفن بجريدة الثورة، وفى سجلات دار التحرير كان حسن إمام عمر هو الصحفى رقم ٢ بعد رئيس تحرير الجريدة حسين فهمى، وكان حسن إمام من أقرب أصدقاء السادات ورفيقه الدائم فى لعبة الطاولة. وبسبب علاقته الوطيدة والقديمة بالسادات فإنه استخرج له تصريحا ليكون من بين المحررين المسموح لهم بدخول مجلس قيادة الثورة وتغطية أنشطته، رغم أن حسن إمام عمر لم تكن له علاقة بالسياسة، فقط ليجد فرصة للقاء صديقه القديم، كما منحه ميزة استثنائية بأن يعود إلى بيته فى أى وقت من ساعات الليل، وحتى نعرف قدر تلك الميزة لا بد أن نذكر أن شقة حسن إمام على بعد أمتار من وزارة الداخلية، وكان وزير الداخلية شعراوى جمعة قد أصدر قرارا بإغلاق الشارع المحيط بالوزارة فى الليل كنوع من الاحتياطات الأمنية، وكان لا يُسمح لأحد بالمرور إلا بتصريح خاص والوحيد الذى كان مسموحًا له بالمرور فى أى وقت وبلا تصاريح هو حسن إمام عمر.
انفرد بخبر زواج أم كلثوم من حسن الحفناوى ففصله عبدالناصر وأغلق مجلته.. وانتقم من «كوكب الشرق» بطريقة ساخرة
كان السادات هو الذى أنقذه من غضب أم كلثوم ومن قرار بالفصل من العمل الصحفى اتخذه عبدالناصر مجاملة لكوكب الشرق، وفى أوراق حسن إمام عمر كل التفاصيل الخاصة بالأزمة، فقد سمح السادات لصديقه المحرر الفنى لجريدة الجمهورية بإصدار مجلة فنية أسبوعية عن دار التحرير حملت اسم «أهل الفن»، حظيت بنجاح سريع وتأثير لافت فى الوسط الفنى. وفى العدد ٢٤ من المجلة انفرد حسن إمام عمر بخبر زواج أم كلثوم من د. حسن الحفناوى، وذهب حسن إمام إلى المطبعة ليسلم العدد الجديد ويراجعه بنفسه وعاد إلى منزله فى لاظوغلى لينام «وش الفجر»، وما إن داعب النوم جفونه بعد يوم عمل طويل حتى استيقظ على صوت جرس التليفون، كان المتصل يلح وأعاد الاتصال مرات، وفوجئ بصوت مدير المطبعة يخبره بأن البوليس الحربى حاصر المطبعة وأخذ كل النسخ التى تمت طباعتها وأتلفوا «زنكات» الطباعة، ثم يسأله فى غضب: هو العدد ده فيه إيه؟.
وبعد دقائق جاءه صوت السادات فى التليفون غاضبًا على غير العادة: إنت إيه اللى هببته ده يا حسن.. تعالى لى المكتب حالًا.. ح تلاقى سكرتيرى منتظرك فى العربية بعد دقايق قدام بيتك.
لم يكن حسن إمام عمر يتصور أن الخبر الذى نشره عن زواج أم كلثوم يمكن أن يسبب كل هذه الأزمة، ولما دخل مكتب السادات كان مشغولًا فى مكالمة تليفونية وفهم من سياقها أن على الطرف الآخر الرئيس عبدالناصر وأنه غاضب بشدة، وحسب ما حكاه له السادات فيما بعد أن عبدالناصر قال له نصًا: الولد ده يقعد فى البيت، ولم تفلح محاولات السادات فى تهدئته وفى نزع فتيل الأزمة أو معالجتها بهدوء وإنقاذ صديقه، وأُجبر السادات على توقيع قرار بفصل حسن إمام عمر عام ١٩٥٤، وزاد الطين بلة أن أعدادًا كانت قد تسربت من المطبعة ووصل الخبر للصحافة اللبنانية وعرف العالم العربى كله بخبر زواج أم كلثوم، الذى تسبب فى فصل الصحفى الذى انفرد به ولم يكتف عبدالناصر بفصل حسن إمام عمر بل تقرر «إعدام» المجلة نفسها فتوقفت تماما بعد أسبوعين من رفد رئيس تحريرها. وبذل السادات جهدا مضاعفا لإقناع أم كلثوم بالعفو عن صديقه، الذى توقف راتبه ولم يجد مصدرا للرزق سوى كتابة البرامج للإذاعة، وكان يقدم برنامجا فنيا فى إذاعة الشرق الأدنى «bbc» حاليًا اسمه «صوت الفن»، وهو الاسم نفسه الذى اختاره عبدالحليم حافظ لشركته الفنية، التى أسسها مع عبدالوهاب ووحيد فريد ودفع حليم لحسن إمام عمر عشرة جنيهات «على سبيل المداعبة» ثمنًا لاسم برنامجه الذى أصبح أشهر شركة لإنتاج الأغانى.
وظل حسن إمام عمر على صلة بالسادات حتى بعد أن أصبح رئيسًا للجمهورية، والثابت من أوراق عم حسن أنه هو الذى اقترح عليه إقامة عيد سنوى للفن يكرم فيه الرئيس بنفسه رموز الفن والإبداع.
وحدث بعد اغتيال السادات فى أكتوبر ١٩٨١ أن تلقى حسن إمام عمر دعوة من هيئة الإذاعة البريطانية لتسجيل ذكرياته مع السادات، يحكى لى إمام عمر: «وفى الاستديو بلندن وعندما بدأ عمى يحكى عن السادات خنقه البكاء ولم يستطع إكمال الحلقة وعرفت التفاصيل من صديقى حسن أبوالعلا، الإذاعى المصرى فى البى بى سى وقتها، وكان حاضرا وشاهدا على الموقف وظل لآخر حياته يذكر السادات بكل خير».
ولم ينس حسن إمام كذلك ما فعلته السيدة أم كلثوم معه وتحريضها لعبدالناصر على فصله، فقرر أن ينتقم منها بطريقة ساخرة بمساعدة صديقه الشيخ سيد مكاوى، وكان يسكن على مقربة منه فى شارع سوق الإثنين بالسيدة زينب، ويوم حفلة أم كلثوم الشهرية كانت الصحافة معتادة على نشر كلمات الأغنية الجديدة فى الحفل، وغالبا كان ينفرد بنشرها جليل البندارى، يقرأ حسن إمام الأغنية ثم يبدأ فى كتابة كلمات هزلية ساخرة على نفس الوزن، وكثيرون لا يعرفون أن حسن إمام عمر كان زجالا موهوبا، ويأخذ منه الشيخ سيد الأغنية الهزلية ويبدأ فى تلحينها وبعد ساعات تكون لديهما أغنية موازية تسخر من أغنية أم كلثوم الجديدة. الغريب أن أم كلثوم كانت تستمتع بما يصنعه حسن إمام والشيخ سيد مكاوى فى أغانيها وتحوير كلماتها وألحانها، بل كانت تلك الألحان الهزلية سببا فى التفات أم كلثوم للشيخ سيد وجمله اللحنية الجديدة، فأسندت له تلحين «يا مسهرنى».

خاصم سامية جمال بسبب إنتاج فيلم لـ«فريد الأطرش»
كانت تحية كاريوكا أقرب نجمات الوسط الفنى من قلب حسن إمام عمر، كانت تعجبه شهامتها وجدعنتها ثم صلتها القديمة بصديقه أنور السادات، حيث خاطرت بإخفائه فى بيتها أثناء فترة هروبه من البوليس بعد مشاركته فى عملية اغتيال «أمين عثمان»، وفوق كل ذلك كان على خلاف مع غريمتها ومنافستها سامية جمال، فلم ينس لها أنها ورطت شقيقه الأكبر «العمدة» طه إمام عمر، الذى كان يدير أراضى وأطيان الأسرة فى قليوب، وكان مغرما بالفن ونجومه ويسهر فى كازينوهات «الكيت كات»، وفى واحدة منها تعرف على سامية جمال، وأقنعته بأن يدخل شريكا لفريد الأطرش فى فيلم «حبيب العمر»، وبالفعل أسس العمدة شركة إنتاج مع فريد كانت باكورة إنتاجها، ولما عرف حسن إمام بما فعله شقيقه غضب من سامية وفريد وأجبر شقيقه على التخارج من الشركة، ولكن تترات الفيلم مازالت تحمل حتى الآن اسم منتجه العمدة طه إمام عمر. وربما لهذا السبب أخذ موقفا من شلة سامية وفريد ومال إلى جبهة تحية. وفى أوراقه يحكى حسن إمام عمر أنه كان لا يفارق تحية أثناء تصوير فيلمها الشهير (شباب امرأة)، وكان تصوير الفيلم فى شهر رمضان، فكانا يتناولان الإفطار فى ميدان الأوبرا ثم يسيران على الأقدام حتى ميدان (الحسين) ليسهرا هناك ويتناولا السحور.

وداد حمدى تكتب له خطابات غرامية من سوهاج: عايز بوسة يا روحى؟
فى أوراق حسن إمام ستصادف خطابات شخصية جدا احتفظ بها فى أدراجه، بينها رسائل خاصة أرسلتها له الفنانة وداد حمدى، تفضح سطورها غرامها به وتكشف عن قصة حب جمعت بين الصحفى الشهير والنجمة الكوميدية المحبوبة. والخطابات أرسلتها له وداد بالبريد من سوهاج، حيث سافرت مع فرقتها المسرحية فى جولة بالصعيد، وفى واحدة من تلك الرسائل تكتب له وداد: «سوهاج فى ٢٢٣١٩٤٤.. صباح الخير يا سونة، إزيك النهارده، مبسوط، أتمنى ذلك، عايز بوسة يا روحى آهه كده.. عزيزى صحيت من النوم وشربت شاى وبعد هذا غسلت وشى وجلست فى السرير أكتب لك خطابى هذا.. حسن بتعمل إيه دلوقت، إوعى تروح السينما لوحدك أحسن أزعل، أما أقولك عملت إيه إمبارح بالليل، بعد ما كتبت لك الخطاب روحنا على المسرح وبعد ذلك رجعنا على الأوتيل وأكلنا ثم جلست زوزو ماضى وإحسان شريف وسراج منير وفاخر فاخر يلعبون الورق.. حلوة دى.
أما أنا فتمددت فى السرير ومرت بى ذكريات علاقتنا، تلك العلاقة التى مرت بها أحداث كثيرة مؤلمة وغير مؤلمة ولاكننا «لكننا» صمدنا رغم كل هذا وخرجت أنا من كل تلك الأحداث ظافرة سعيدة، نعم ظافرة بقلبك وعطفك، وسعيدة لأنى أحبك بكل قواى، نعم أحببتك بكل ما فى هذه الكلمة من معان، لقد أخذت قلبك ووضعته مكان قلبى وحوله إطار متين من الإخلاص، أما قلبى فقد أخذته منى ولن أستطيع أن أرده منك وأنا سعيدة بذلك. عزيزى أتركك الآن لأن زوزو تريد القلم علشان عايزه تكتب جواب.. فاهم؟.. سأكتب لك خطابى الثالث من أسيوط وسأكتب لك كثيرا، وختام لك حبى وحياتى وقلبى.. حبيبتك وداد».
وفى أوراق حسن إمام عمر ستصادف كذلك رسائل من نجوم الفن فى العالم العربى، بينها خطاب أرسلته المطربة اللبنانية الكبيرة نجاح سلام بتاريخ ١٣ أبريل ١٩٥٤ تهنئه بصدور مجلته «أهل الفن»، وتتمنى منه بوصفه رئيس تحريرها أن يهتم بأخبار الفنانين العرب «وإنى أشكر لكم مجهودكم هذا، كما أتقدم بالشكر إلى حضرة قائدى الجناح سيادة وجيه بك أباظة وسيادة أنور بك السادات الرجلين اللذين يعملان لتوحيد صفوف الفنانين العرب.. المخلصة نجاح سلام». وعندما تطوى أوراق حسن إمام عمر لا بد أن يداهمك شعور بالأسف، لأنك ستغادر هذا الزمن المؤنس بنجومه وأبطاله وأيامه وأوراقه الصفراء التى يشع منها الحب والإبداع والصفاء وعطر الأحباب.