رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن وباء المكارثية


كان العام ١٩٥٠م عام انتشار وباء «المكارثية»، حين ألقى السيناتور الأمريكى جوزيف مكارثى، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهورى، كلمة أمام إحدى المنظمات النسائية، مؤكدًا أن لديه قائمة تضم أكثر من ٢٠٠ أمريكى وصفهم بأنهم شبكة تجسس لصالح الشيوعية.

تحولت المكارثية إلى جنون فى وصف كل مخالف للحكومة الأمريكية فى الرأى بأنه «عميل»، «طابور خامس»، يعمل لصالح «خطر الشيوعية»، وتحولت كل الآراء الإصلاحية المطالبة بإصلاحات اقتصادية أو سياسية إلى أنها تعرقل مجهود الحكومة الأمريكية وهى تحارب «خطر الشيوعية».

وبالطبع تم اتهام كل مخالف للرأى فى وطنيته وشرفه دون أى دليل، بل أصبح مجرد مخالفة أفكار مكارثى المجنونة نفسها فى تشويه المخالفين فى الرأى اتهامًا واضحًا بعدم الوطنية والطابور الخامس للشيوعية. وتسارعت الأحداث بأنْ حققت المباحث الفيدرالية مع أكثر من ٣ آلاف موظف فى وزارة الخارجية الأمريكية، أغلبهم من المتخصصين فى شئون الاتحاد السوفيتى، بدعوى أنهم يقدمون تحليلات موضوعية لخطر الشيوعية لا تتناسب مع الهستيريا التى أطلقها السيناتور مكارثى، ثم تطورت الحملة المجنونة بأن طالت شخصيات عامة وأدباء وصحفيين وفنانين تم استدعاؤهم للتحقيق معهم فى لجنة مكارثى بمجلس الشيوخ أو لجنة الممارسات غير الأمريكية بمجلس النواب. ثم انتشر الوباء فى كل المجتمع الأمريكى حتى أصبح «الخوف» عنوان المرحلة، الخوف من عملاء الشيوعية، أو الخوف من المكارثيين، لأنهم قد يتهمون أى مواطن قال رأيًا مختلفًا بأنه طابور خامس، ثم أثبتت التحقيقات لاحقًا أن المباحث الفيدرالية الأمريكية قد لعبت دورًا مشبوهًا فى الحملة، كُشف عنه الستار بعد الحملة بـ٢٠ عامًا، حيث ثبت أنها سربت وثائق أغلبها ملفق للخوض فى سمعة وشرف ووطنية كثير من الشخصيات العامة، لمجرد أن آراءهم مخالفة للحكومة الأمريكية. وقد اتهمت المكارثية رموزًا بارزة بالخيانة، منهم مثلا مارتن لوثر كينج، وألبرت أينشتاين، وأرثر ميللر، وشارلى شابلن، وكان ضحيتها أنْ حُبس أكثر من ٢٠٠ شخص فى السجون، وأكثر من ١٠ آلاف شخص تم طردهم من وظائفهم والتنكيل بهم، وكل ذلك بتهم ملفقة طبعًا، وتم منع كتب أكثر من ٤٠٠ كاتب وصحفى أوروبى. اللافت للنظر أن المكارثية كان لها أنصار يكاد يشكلون أغلبية المجتمع الأمريكى الذى صدق أن كل رأى معارض «عميل» أو «طابور خامس». وسط كل ذلك الجنون واجه التيار الإصلاحى أفكار مكارثى بحملة مضادة، وتمكن صوت العقل من الانتصار فى النهاية، حين بدأ إدوارد مارو الإعلامى الشهير مواجهة حملة مكارثى بقوة، وانضم إليه الأديب أرثر ميللر، ثم دارت الدائرة على مكارثى، وقدم إلى المحاكمة بتهم الفساد والتزوير، ثم أدمن الخمر والمخدرات ومات بسبب ذلك، بعد أن تخلص المجتمع الأمريكى من وباء «المكارثية». مات مكارثى وبقى «وباء المكارثية» يستخدم كوَصْفة لكبت أى رأى معارض إصلاحى باتهامات فى الشرف والوطنية.. وللأسف فإن هذه العدوى تنتشر الآن فى مصر.