رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شكوكو.. سيرة الهلفوت الأعظم


لا أعرف سببًا محددًا لإعجاب رجال أهل قريتى فى سوهاج بأعواد الخيزران.. فتلك الشجرة القادمة إلينا من شرق آسيا لا تزرع فى أراضينا.. ولم تزين أحواشنا بمقاعد «البامبو» أبدًا.. لكن لا يخلو منزل فى قريتى من عصا أو اثنتين من أعواد الخيزران.. ولا يمكنك أن تشاهد أحدهم ذاهبًا إلى مشوار أو فى رحلة العودة منه دون «خيزران»، ويا ويلك ويا سواد ليلك لو طالك فى معركة- وما أكثرها فى أيام شبابنا- طرف خيزرانة.
المهم أن معظمنا وحتى يصبح رجلًا.. كان لابد أن يقتنى «عصاه».. من الخيزران الذى كان يباع مطعَّمًا بجلد منقوع فى الزيت من جلد الجاموس والأبقار.. حتى يصبح للعصا رأس ثقيل.. وربما شاهد أحدكم لاعبى التحطيب وهم يتبارزون فى رقصتهم الشهيرة بتلك العصا.. ومن لم يستطع منا شراء واحدة من هذه العصيان كان يمكنه أن يكتفى بقطع عود من فرع شجرة رمان نسميه «النشو».
حملُ هذه العصا طقس من طقوس أعيادنا فى الصعيد، مثله مثل خياطة جلباب بلدى واسع الأكمام وله سيالتان نستخدمهما فى «حيازة الحلوى والنقود».. ومآرب أخرى، وكل واحد منا نحن أبناء الخامسة عشرة يرتدى جلبابه ولاسته أو شاله.. ويحمل عصاه ويذهب للمقابر صباحًا.. ثم يغطس مع عدد من الأصحاب بعيدًا عن رؤية الكبار لساعات قليلة نمضيها فى البندر ونعود بعد العصر لنظفر بمشاهدة فيلم قديم ومسرحية، وعادة ما كان المقرر التليفزيونى ذلك الفيلم الذى أدمنا مشاهدته وتصديق شجاعة بطله عنتر الذى هزم منافسه القوى لبلب وضربه سبعة أقلام حتى ينفذ شرط والد حبيبته.
ولم يكن «لبلب» هذا سوى المونولوجست محمود شكوكو الذى لم نكن نستعذب أغنياته لكننا كنا نفرح لكل قلم من أقلامه السبعة وهو الخفيف النحيل.. ابن البلد.. على قفا ذلك القوى المتغطرس.

«نداهة الغناء» خطفته من «مهنة النجارة».. والكسار قدمه فى أول دور بالسينما
لسنوات ظلت كلمة «مونولوجست» مجهولة المعنى بالنسبة لى.. ولا تعنى سوى أنه الرجل المهرج الذى يقدم «الأراجوز».. الذى لم نشاهده فى الحقيقة أبدًا.
ولما كبرنا.. عرفنا أنه فن سياسى بامتياز.. ظهر فى بداية عشرينيات القرن الماضى بالتوازى مع الطقطوقة وأن أول مونولوجست فى مصر كان اسمه سيد سليمان وهو فنان نوبى ظهر فى بعض أفلام السينما القديمة مؤديًا دور الجرسون أو السفرجى.. والغريب أنه أحد الأساتذة الذين تتلمذ على أيديهم إسماعيل ياسين، وهو نفسه الذى أصبح بطلًا يستضيف سيد سليمان فى مشاهد معدودة فى أفلامه وأشهرها «الفانوس السحرى».
ومما لا يعرفه الكثيرون.. فسيد سليمان هذا هو السبب الرئيسى فى ظهور جهاز الرقابة على المصنفات بعدما شاع أحد مونولوجاته عن معاكسة النساء واعتبرته السلطات خادشًا للعفة والحياء.
أما شكوكو نفسه فلم يكن يعرف مثلنا يعنى إيه مونولوج.. فالرجل المولود فى حارة بالدرب الأحمر لأب يعمل فى مهنة النجارة، فشل فى الكتاب بسبب مشاغباته وانضم لورشة والده نجارًا يصنع كل شىء من أول الشباك والباب وحتى «أوض النوم».. لكن نداهة الغناء الذى كان يسمعه من «زينب المنصورية» خطفته من صنعته التى كان بارعًا فيها.. فخرج إلى أول الشارع ليتنصت على «الآلاتية» الذين يجلسون على مقاهى المنطقة.. ويلحظون هم ذلك الشغف فيقربونه منهم ليكتشفوا جمال صوته وخفة دمه وهو يغنى لعبدالوهاب ومحمد العربى والمنصورية ثم يأخذونه فى أفراحهم ليسمع به الجيران.. والأهل.. ومنهم والده الذى يعاقبه بالطرد من البيت والورشة.. بعد أن صار الفن خطرًا يهدد حياته وصنعته.. لكن الشاب العنيد لا يعود لمنزل والده كما خطط الرجل.. بل يقوم بفتح ورشة بمفرده فى منطقة مجاورة اسمها الرويعى يطلق عليها ورشة «الأنس» يذيع صيت منتجاتها حتى يصل إلى شركات مشهورة ومعارض كبرى مثل عمر أفندى وشيكوريل.. وبين سيدات المجتمع الراقى أيضًا إحداهن اسمها لطيفة نظمى وكانت تعمل ممثلة.. أعجبها صوته وهو يغنى أثناء تركيبه لأوضة نوم صنعها لها فتوسطت له عند الكسار الذى كان وش السعد عليه، فقدمه فى أول دور له بالسينما فى أحد أفلامه.. فترك ورشته لأخيه وتفرغ للغناء والتمثيل ليصبح فى سنوات قليلة نجمًا تتخاطفه الفرق حتى أسس لنفسه فرقة خاصة استأجرت مسرحًا بالأزبكية لتقديم مونولوجاته التى اقتحمت الحوارى والعطوف لتصل إلى حجرة نوم الملك فاروق.

سيارة «كابورليه حمراء» تسببت فى أزمة مع الملك.. والنحاس تدخل للإفراج عنها
فى البداية كان محمود شكوكو يكتب المونولوجات التى يؤديها لنفسه.. ومنها ما استمر يغنيه فى سنوات مجده مثل:
«أنا عم الدرب الأحمر
أنا أخطر من العفاريت
أضرب مليون جزار
ومخافش من الكبريت
أنا برقص زى الجن
وأهد بإيدى الحيط..
وإن كان فيكم راجل..
يطلعلى بره البيت».
صنع شكوكو مواله الأول- ارتجاليًا- قبل أن يتعرف على أحمد المسيرى صديق عبدالرحمن الخميسى الذى قدم له أول أغنياته «ورد عليك.. فل عليك»، ودفع فيها شكوكو.. عشرة جنيهات كاملة.. لكنها كانت سببًا فى أن تحمل شهرته إلى أسماع «كروان الإذاعة» محمد فتحى الذى قدمه للناس عبر أثيرها.. فلما شاعت وأصبحت تميمته فى الأفراح.. راح يخلع البدلة الزرقاء التى كان يغنى بها- باعتباره من العمال ومولودا فى عيدهم أول مايو عام ١٩١٢- ليرتدى الجلباب البلدى ويمسك فى يده الورد الذى يوزعه على الجمهور.. وعندما شاهد أحد الفلاحين وهو فى الطريق إلى فرح فى الدقهلية يربط جلبابه من المنتصف ويرتدى على الرأس ما يشبه الطرطور اشتراه منه ليكمل ذلك الشكل الذى جعل الصحف فى أوروبا تطلق عليه شارلى شابلن العرب بعد أن أضاف العصا إلى الجلباب والطرطور.

عرفت الفلوس الطريق إلى «سيالة» شكوكو.. مثلما عرفت نساء الطبقة الراقية الطريق إلى مسرحه.. ليجد نفسه فى يوم وليلة فى مواجهة إحداهن وقد حجزت تذاكر مسرحه كاملًا فيرفض الغناء لها بمفردها.. فتنبهر به أكثر.. ويبدو أنها لم تكن تفكر فى حبه بقدر تفكيرها فى الانتقام من طليقها يوسف بك وهبى.. فقررت دعوته إلى قصرها وعرضت عليه الزواج.
وشاعت قصة حب شكوكو للسيدة عائشة ابنة الأعيان ليغضب الملك، كما جاء فى إحدى الروايات، بإيعاز من يوسف وهبى الذى أوحى للملك أنها ستصبح عادة أن تتزوج بنات الطبقة الراقية من عموم الشعب، فلم يحدث الزواج. فيما أكد ابن شكوكو فى حوارات صحفية أنها رواية مكذوبة وأن والده رفض الزواج من السيدة عائشة وصالحها على يوسف وهبى.. المهم أن رجل شكوكو غرزت فى عالم السياسة ودون أن يدرى.. ووجد نفسه فى منافسة مع الزعيم مصطفى النحاس بعد أن نصحه منافسون للوفد وزعيمه وصحيفة روزاليوسف التى أطلقت على شكوكو لقب «زعيم الأغلبية» نكاية فى النحاس.. فقرر الترشح فى مواجهة النحاس فى دائرته ثم تراجع ليعرض عليه أهل الدرب الأحمر الترشح فى دائرتهم مسقط رأسه ويقبل ذلك فعلًا ويعلن فى الصحف تخصيص عشرة آلاف جنيه لحملته الانتخابية ليتراجع فى اللحظة الأخيرة ويكتفى بأن يغنى:
«رشحت نفسى فى قلب محبوبى
نجحت بالتزكية.. ونلت مطلوبى».
هرب شكوكو من الانتخابات.. وعالم السياسة.. لكنه لم يستطع الهروب من مواجهة الملك.. فقد كان فى لندن.. واشترى سيارة «حمراء كابورليه».. وكانت الأوامر تقضى بأن لا يتم الترخيص بركوب هذا اللون وتلك الماركة إلا لأبناء الأسرة المالكة.. فتم حجز سيارة شكوكو فى الميناء ليتوسط له النحاس ويفرج الملك عن السيارة فى سابقة لم تتكرر.. وهو ما ينفى تمامًا أن يكون الرجل الأمى البسيط الذى تعلم القراءة والكتابة على «كبر» فى صدام مع السراى أو الملك.
لكن من المؤكد أنه أيد ثورة الجيش عند قيامها بل غالى فى تأييده لها ولعبدالناصر.

غنَّى لـ«عبدالناصر» بعد نجاته من الاغتيال: «المرشد العام ده مفسد عام»
عرف شكوكو الطريق إلى السينما بمشاركة نجوم عصره.. شادية وإسماعيل ياسين.. وغيرهما.. وكان من الطبيعى أن يستثمره عبدالوهاب الذى استمع إليه فى المسرح القومى بالإسكندرية ليجربه إلى جانب ليلى مراد فى الأوبريت الشهير.. «الحبيب المجهول» وهو يغنى: «إن كان على قلبى ونار قلبى.. واد حبب موت».. ثم يتبعها بلحن رائع كتب كلماته حسين السيد «يا جارحة القلب بقزازة».. ولم يكتف شكوكو بعبدالوهاب فغنى من ألحان محمود الشريف واحدة من أجمل أعماله.. أعيد توزيعها وتقديمها أكثر من مرة بصوت محمود عبدالعزيز.
 وقدمتها مؤخرًا منى زكى فى مسلسل «أفراح القبة» ليبحث عنها الجيل الجديد ليكتشف أنها من «كلاسيكيات شكوكو» التى كتبها فتحى قورة:
«الهاشا باشا تاكا
الهاشا باشا تك..
يعنى وبعدين معاكا
يا ساقينى المر سِك
مراية الحب عميا...
بنّورها مش قوى
ونار الحب حامية..
ونا فيها بانشوى
ما بلاش ان كان ضرورى
أشويلك رطل بورى
ده القلب من هواك
بيعمل تيكا.. تك.
>
وأغرت تلك المفردات التى برع فى كتابتها المسيرى وقورة وأبوالسعود الإبيارى شكوكو بالغناء العاطفى على طريقته.. فأعاد توظيف واحدة من أشهر الفولكلوريات المرتبطة برمضان «وحوى يا وحوى» بشكل ساخر خفيف الدم فى أغنية «حبك شمعة» التى أعادتها منى زكى أيضا فى مسلسلها السابق ذكره:
«حُبك شمعه وقلبى فانوس
وبتلعبى بيه وحوى يا وحوى
يا ما هواك غرّمنى فلوس
ارحم قلبى.. وحوى ويا وحوى
من يوم حبك ونا مسكين
كل ما ببعت شوق وحنين
بترجعهم وتقولى..
غيرهملى بقمر الدين
وكل يوم على دى الحالة
ده قلب ده.. ولا بقالة
مهما هواك يدينى دروس
وحوى يا وحوى».

ومن محمود الشريف والسنباطى لنجوم العصر الجديد فى الموسيقى محمد فوزى وكمال الطويل.. والأخير غنى له:
«يا حلو اعقل شوية
وبلاش الهوهوه
تملى تغير عليّا
م الميه والهوى
من بكره المغربية
هاحب اتنين سوا».

والغريب أن محمد فوزى الذى يزعم البعض عداءه لثورة يوليو هو من لحن له من كلمات فتحى قورة «يا سلاح الجيش».. وهى أغنية من نوادر أغنيات يوليو وشكوكو على السواء..
«يا سلاح الجيش يا مجنزرهم
يسلم مين جابك ويعيش
أعداءنا النوم.. طار من عينهم
هيقولم الحق يا شاويش
الحق يا شاويش.
يا سلاح الجيش ياللى حارسنا
وف إيد أبطال..
يا سلام على همة ريسنا
أهو كده يا رجال..
ربنا يحميه.. ويبارك فيه
ده رجال الثورة ما فيش منهم
أعداءنا النوم.. طار من عينهم».
>
ولم تكن هذه الأغنية من ألحان محمد فوزى هى الأولى فى سجل أغنيات شكوكو لعبدالناصر فقد غنى له، عقب نجاته من محاولة الاغتيال فى حادث المنشية، واحدة من الأغنيات النادرة التى تذكر الإخوان المسلمين ومرشدهم بالاسم.. بل أيضا اسم محمود عبداللطيف الذى حاول اغتيال ناصر.. ويصفه شكوكو فى الأغنية بالحمار..
«خلخال خطر ع القدم
كل الحماس فيه
والخاين اسمه حسن
مُرشد على هضيبى
أحطه هوه وجهازه السرى
فى جيبى
المرشد العام.. ده مفسد عام
على معتوه..
وجنبُه عودة وخميس
والطيب المكروه..
محمود يا عبداللطيف
يا كبش الفدا يا حمار
انت وريّسك واخواتك
بتساعد الاستعمار
ويا رب يا للى خلقت المسلمين من طين
يكفينا شر الجهاز السرى
والشياطين».
وشارك شكوكو مثل عشرات من مطربى ومونولوجستات ذلك العصر فى احتفالات الثورة.. وفى المجهود الحربى.. وقطار الرحمة.. بل وصل به الأمر فى ليلة توقيع اتفاقية الجلاء إلى استئجار عربة نقل بخمسين جنيهًا ووضع فوقها فرقته من الكورال والعازفين وطاف شوارع وسط البلد طوال الليل يغنى للثورة وضد الإنجليز الذين رحلوا.. حتى طلع الصباح ليذهب بعربته وعازفيه إلى مقر مجلس الوزراء ليغنى أمام عبدالناصر.
وكان من الطبيعى أن يستثمر الجميع.. السلطة.. والأعيان.. وأصحاب شركات الزجاج نجاح شكوكو.. فصنعوا له تمثالًا من الجبس كانوا يستبدلونه بالزجاجات الفارغة ليعاد تدويرها.. وليعرف التاريخ نداء الباعة فى القرى «شكوكو بقزازة».
ويصنع أصحاب شركة الكبريت «عبوة باسمه» من كبريت شكوكو.. ويستغل الفدائيون فى القنال نفس الفكرة فيجمعون الزجاجات الفارعة من الأهالى بتمثال شكوكو ليصنعوا منها ما يشبه القنابل بمواد كبريتية بسيطة لكنها أزعجت الإسرائيليين على الضفة الأخرى.. ليذكر الرئيس السادات كل ذلك ويدعو «شكوكو» لتكريمه فى عيد الفن بشهادة تقدير كان فى أمس الحاجة إليها فى أيامه الأخيرة، بعد أن رحلت عنه الشهرة والأموال حتى إنه عاد لصنعته الأولى يصنع الباب والشباك والنملية وحجرات النوم.. فيما يدندن مع التليفزيون الذى يعيد إذاعة حفلات أضواء المدينة:
«حبيبى شغل كايرو
مافيش فى القلب غيرو
يموت هوّه فى عذابى
وأموت أنا فى ضفايره..
حبيبى شُغل كايرو».
>