رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمل دنقل يكتب: الحالة الدينية لـ«قريش»

أمل دنقل
أمل دنقل

- «قريش» ليست قبيلة عربية خالصة وإنما هى «مستعربة»
- كانت قبيلة تجارة لا حرب ولا تعادى القبائل الأخرى فى الحجاز
- قريش دخلت الإسلام حين لم تجد مفرًا من اعتناقه.. واعتبرته طوق النجاة لتجارتها

ربما تكون قريش أشهر قبيلة على الإطلاق، بنت شهرتها الأولى فى التاريخ باعتبارها أنجبت نبى الإسلام محمدًا عليه الصلاة والسلام، لكنها لم تكتف بهذا الدين، فقد لعبت أخطر أدوارها بعد رحيل النبى باعتبارها وصية على دولة الإسلام الجديدة. واستطاع فرعان من فروعها أن يحكما المسلمين منذ وفاة النبى حتى غزوة هولاكو وسقوط بغداد.
فما هى السمات الحقيقية لهذه القبيلة، التى مكنتها من احتلال هذه المكانة المتفردة فى تاريخ العرب؟.

أوحت الأخبار: مستعربة
أهو تدينها؟.. قد دخلت الإسلام حين لم تجد مفرًا من اعتناقه، وحين أصبح الدين الجديد هو طوق النجاة الوحيد لبقاء تجارتها واستمرار تجارها فى الوجود، وإذا كان الأنصار مثلا قد حملوا راية الدفاع عن الإسلام فى أحلك لحظاته، فإن قريشًا لم تحمل هذه الراية إلا حينما أصبحت غنائم وأنفالًا، بل لم تنس أن تعيد الأنصار إلى مكانتهم الأولى، مجرد قبائل مهاجرة إلى المدينة، لا أحقية لها فى الحكم الجديد، ذلك الحكم الذى وضعت بسيوفها أسسه الباقية حتى الآن، أما نسبها فيستدعى الوقوف طويلًا لمعرفة ما يحيط بهذا النسب من ملابسات.
فقريش تنتمى لما يسميه المؤرخون العرب المتعربة أو العرب المستعربة، هذه الطائفة من الذين يقطنون شبه الجزيرة التى تسمى بهذا الاسم تمييزًا لها عن الطوائف الأخرى، العرب العاربة وهم العرب القحطانيون أو اليمانيون.
وتنقل الأخبار أن العرب سموا عربًا نسبة إلى يعرب بن قحطان، فكانت تسمية العرب تقتصر على أولئك الذين ينتسبون إلى هذا الفريق، وأن الفريق الآخر المتعربة الذى تنتمى إليه قريش، فريق ملتحقين بالعرب، وليسوا عربًا أصلًا، فإذا أدركنا المكانة التى تمتعت بها قريش فى فترة تدوين هذه الأخبار بعد ظهور الإسلام، لما لها من تميز، بحكم خروج النبى والخلفاء الراشدين وغير الراشدين منها، إذا أدركنا هذه المكانة كيف أراد المؤرخون أن يوحوا لنا- بطريقة مهذبة- أن قريشا فى الحقيقة ليست قبيلة عربية خالصة، وإنما هى مستعربة بكل ما تحمله هذه الكلمة من تحقير، فى وقت كانت العروبة فيه شرفا يفوق شرف الإسلام إن لم تكن موازية له على الأقل.
وليت الأمر كان مقصورا على التسمية فحسب ولكن القضية تزداد خطورتها إذا وُضع فى الاعتبار ذلك الصراع الرهيب الذى استمر بين أولئك العرب اليمانية والقيسية كما سمته كتب التاريخ بين العاربة والمستعربة، الذى لعب دورًا بارزًا فى بناء الدولة الإسلامية وتدميرها بعد ذلك، حينما استغل الخلفاء ذلك الخلاف والتنافس بين الفريقين لتثبيت دعائم سلطانهم الدنيوى. لقد كان اليمانيون يرون أنهم أكثر التصاقا بالعروبة من القيسيين فهم المحاربون والفرسان، بينما يرى القيسيون أنهم أهل الحضارة وسياسة الأمور، ولم تكن قريش ناشزة عن هذا التفكير قبل الإسلام، لقد كانت ترى فى نفسها الشرف، وهو شرف أكدته هزيمتها لأولئك اليمانيين أصحاب الأرض الأصليين، تلك الهزيمة التى ظلت فى النفوس آثارها العميقة، دافعة كلا الفريقين للكيد للآخر كلما سنحت الفرصة، وإن اضطرتهما ظروف الحياة فى الصحراء إلى نسيان العداء أو تناسيه بعض الوقت.

استضافوه فطردهم أبناؤه
إن يعرب بن قحطان الذى تنتسب له العرب العاربة هو شقيق جرهم بن قحطان، الذى كانت سلالته تعيش فى مكة قبل أن تطردها قريش عند اشتداد ساعدها، قد يقول قائل إن جرهم التى كانت تعيش بمكة من العرب البائدة وإنه لا صلة لها بجرهم الأخرى، لكن الأمر لا يختلف فجرهم القديمة أيضا كانت منازلهم باليمن، ثم انتقلوا للحجاز، حتى كان نزول إسماعيل مع أبيه بمكة. فتعلم العربية منهم، ثم زوجوه من بناتهم، فإسماعيل عليه السلام كان لسانه العبرانية والسريانية على ما يقوله المؤرخون، وبانتسابه لجرهم وتعلمه العربية منهم التحق أبناؤه لغة وانتسابا بعرب الجزيرة.
إننا لا نستطيع أن نغض الطرف عما يرويه المؤرخون من أن أبناء إسماعيل قد طردوا جرهم من منازلهم بمكة، لكن إن صح هذا- وهو صحيح فيما ترويه الأخبار- فكيف يمكن لهؤلاء العرب القحطانيين الذين يهتمون أشد الاهتمام بنسب القبائل وعراقتها- أن ينسوا أن هؤلاء الإسماعيليين طاغون على أرضهم؟!. لقد جاء وقت كانت فيه القبائل اليمنية فى حالة من الانحطاط والضعف، ولقد سقطت تلك الممالك اليمنية القديمة القوية كسبأ وحمير، وتداولت اليمن جيوش الفرس والأحباش، واضطرت القبائل إلى هجرة الأرض نفسها بعد سيل العرم فتفرقت فى البلاد، لكن هذا لا يعنى عند العربى التسليم بالأمر الواقع، أن يقبل بنسبه غير العربى إلى العروبة، نعم هناك إسماعيليون كانوا يعيشون إلى جوار جرهم ويتفيأون بحمايتها، لكن أن تعيش قبيلة فى حماية قبيلة أخرى هو أمر، وأن تفرض هذه القبيلة اللاجئة سيطرتها وسيادتها على الأرض والطريق هو أمر آخر، اكتفى المؤرخون بالإشارة إليه باستعمال لفظة «المستعربة» ومتى؟، بعد أن حمل هؤلاء المستعربون راية العروبة الجديدة إلى كل بقاع الأرض!.

لغة قريش واليمن
فمن أين جاءت قريش؟
هناك إسماعيليون عاشوا بمكة وانتزعوا السيادة من جرهم، لكننا لا نستطيع الزعم أن قريشا تنتمى مباشرة إلى هؤلاء الإسماعيليين الذين أقاموا بمكة حول الكعبة لأسباب كثيرة نحاول أن نستوضح ما خفى منها، فإذا كان إسماعيل قد تعلم عربية «جرهم» وهى عربية قحطانية كما يدل على ذلك نسب جرهم نفسها، فبماذا نفسر ذلك الاختلاف البيّن بين لغة قريش ولغة اليمن؟، إن العرب اليمانيين كانوا يتكلمون السبئية والحميرية بينما كانوا يكتبون بالخط المسند مما يختلف عن لغة وخط الشمال. صحيح أن اللغتين تنتسبان إلى العائلة السامية نفسها، لكن الاختلاف بينهما كبير، وشاهد هذا هو الآية الكريمة «وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره»، فالشطر هنا لغة يمانية، وهى لغة أهل المدينة المنورة، والشطر فى لغة قريش هو صوب. كذلك هناك حادثة خالد بن الوليد الشهيرة عندما قال «أدفئوا أسراكم»، ويقول المفسرون إن الإدفاء فى لغة اليمن هو القتل، فإذا كان هذا الاختلاف قائما بهكذا تباين عند ظهور الإسلام فلنا أن نتصور ما كان عليه فى عهد إسماعيل حيث لم تكن التجارة قد مهدت طريق التقارب اللغوى بين أنحاء الجزيرة العربية، هذا التقارب الذى لم يؤت ثماره الحقيقية إلا بعد أن أحرق عثمان بن عفان -رضى الله عنه- المصاحف الأخرى، واكتفى بالمصحف الواحد، توكيدًا لوحدة اللغة القريشية بين جميع العرب وإيذانًا بانتهاء الزمن الذى نزل فيه القرآن على سبعة أحرف لكى يفهمه من لا يجيد لغة قريش.
شىء آخر، إذا كان أبناء إسماعيل بمكة قد تخلوا عن عبادة الإله الواحد، إله إبراهيم وانحرفوا إلى الوثنية، فلماذا اتخذوا لهم أصنامًا مجلوبة من الشمال؟. يروى ابن الكلبى أن عمرو بن لحىّ هو أول من جلب صنمًا من الشمال ووضعه فى الكعبة، وهو هدية جديرة بالانتباه فإذا كان أبناء إسماعيل المقيمون حول الكعبة التى بناها أبوهم وجدهم - عليهما السلام- قد بدأوا فى فترة من فترات الوهن يتجهون إلى الوثنية السائدة من حولهم فلماذا لم يتخذوا آلهة الوثنيين المقيمين من حولهم آلهة لهم؟، لماذا يستقدمون أصنامًا من الشمال لكى يعبدوها؟، وإذا كانوا قد استعاروا من الجرهميين لغتهم ومكانتهم كما تروى الكتب، فلماذا لم يستعيروا عباداتهم أيضًا؟. صحيح أن الكعبة كانت بها أوثان للعرب الآخرين، لكن الإله «هبل» كان هو إله قريش، وهو نفسه الإله هبل عند الكنعانيين، الذى يقابله الإله بعل عند الآراميين.

نقيم السوق ولا نشترك بها
والدليل على أن «هبل» هذا كان إلهًا خاصًا بقريش أن أبا سفيان بن حرب عندما انتصر على المسلمين فى غزوة أحد صاح: «اعل هبل». و«أحد» كما هو معروف كانت حربًا بين قريش- خاصة - والمسلمين، فلم تشترك فيها قبيلة عربية أخرى مع قريش، أى أن قريشا فى هذه الغزوة كانت تعتبر انتصارها- شأن القبائل القديمة- انتصارًا لآلهتها على إله أعدائها. وبعبارة أخرى فإن «هبل» إله قريش هو الذى يعلو إذا ما انتصرت على أتباع «الله»: إله محمد «ص».
إن أبناء إسماعيل الذين عاشوا بمكة، والذين ينسبهم المؤرخون إلى عدنان بن أدد من بنى إسماعيل- ينتسب معهم أيضا إلى الجد نفسه قبائل أخرى، عاشت فى الجزيرة يجمعها شعبان كبيران، ربيعة ومضر، وينسب المؤرخون قريشا إلى مضر، فإذا علمنا أن مضرا تضم قبائل كثيرة مستعربة، ومع ذلك أجادت العربية حتى نبغ منها شعراء مشهورون فى العرب: عنترة بن شداد العبسى، عروة بن الورد، تأبط شرا، الخنساء، مجنون ليلى، النابغة الجعدى، وغيرهم كثيرون وهم ينتسبون إلى بطون العرب المختلفة، لكن قريشا لا ينتسب إليها أحد هؤلاء الشعراء، ورغم رقى قريش وثقافتها، فإنها لم تستطع الدخول إلى منتدى الشعر الذى كان العرب يعتبرونه وحدة تذوقهم، لقد أقامت سوق عكاظ، حيث كان شعراء العربية متباهين بمناقب قبائلهم وقومهم، لكن قريشا ظلت خارجها، والأكثر غرابة أن يتقبل العرب الآخرون هذا القصور منها فيحضرون سوقها دون أن يطالبوها بالاشتراك فيها، فهل كان هناك سبب مباشر- يعلمه العرب وقتها- يحول بينها وبين المشاركة فى الميدان الذى يتطلب فخرا فى الانتساب وإشادة بالمناقب؟.

النزاع على السيادة
نحن نقول إن قريشا إسماعيليون لكنهم ليسوا الإسماعيليين الذين ظلوا بمكة منذ عهد إسماعيل. نعم كان هناك من أبناء إسماعيل من بقى بمكة، وتنازع السيادة عليها مع جرهم، لكن قريشا لم تكن ممن بقى بمكة كما سيتضح لاحقا، لقد عادت إلى مكة فيما بعد لكى تقيم فيها دولة المدينة، ولعل تلك التفرقة القديمة بين قريش الظواهر وقريش البطاح تشير إلى تفرقة فى النسب، أو فى الإقامة بقرب الكعبة على الأقل، مما يترتب عليه تفرقة فى الشرف، وهى تفرقة لا تقوم قيامًا كاملًا على الثراء والفقر، لكنها تقوم على القدرة على استرداد الكعبة وحمايتها. فقريش الظواهر ربما كانوا من أبناء إسماعيل الذين ظلوا بمكة، وغلبهم الجرهميون أو الخزاعيون على أمر البيت فعاشوا تبعًا لهم حتى عادت قريش إلى الحجاز- فى ظروف قاهرة- فاستردت البيت والكعبة، وطردت القبائل الأخرى خارج مكة وأقامت بها بينما أقام الإسماعيليون الأوائل خارج مكة أيضا مع القبائل المقهورة، وإن ظلوا يتمسحون بقريش عن طريق الانتساب لإسماعيل، ولما كانت قريش فى حاجة لهم لخدمة تجارتها وأغراضها الحربية والسياسية، فقد منحتهم هذا النسب الجديد.

لغز عرب الظواهر
يقول الشاعر:
أبوكم قصىّ حين يرعى مجمعًا
به جمع الله القبائل من فهر
وقصىّ هذا هو قصىّ بن كلاب الذى قيل إنه كان عظيما فى قريش، وهو الذى جمعهم بعد التفرق، فما هو ذلك التفرق؟. لقد ارتجع قصىّ مفاتيح الكعبة من خزاعة بعد أن كانوا قد انتزعوها من بنى إسماعيل، فهل استطاع أن يفعل ذلك بعد أن أنشأ حلفا بين الإسماعيليين القدامى والإسماعيليين الجدد؟. الرواية تقول إن بنى الحارث بن مالك وبنى محارب بن فهد سموا «قريش الظواهر» لأنهم نزلوا حول مكة وهى ليست لهم، فكيف لم تكن لهم؟. وإذا علمنا أن ظاهر مكة نقبهم فيه عامة القبائل التابعة، على عكس بطحاء مكة التى تسكنها القبائل ذات السيادة، فكيف اتفق أن ظاهر مكة لم يكن حتى لهذا الفرع من قريش؟. التفسير الوحيد هو أن هؤلاء الإسماعيليين كانوا مطرودين خارج نطاق مكة وقراها، وعند قدوم قريش استعانت بهم فى الحرب ضد خزاعة، لما لها من نسب قديم معهم، حتى استردت مكة، فانتسبوا للقبيلة الغالبة، وإن سكنوا فى ظاهر مكة مكان خزاعة المهزومة.
لكن قريشًا فى نهاية الأمر كانت قبيلة تجارة لا قبيلة حرب. تعرف أنها لا تستطيع أن تعادى القبائل الأخرى التى تعيش معها فى الحجاز، وهى تريد- لأسباب تجارية- أن تفرض نفوذها بين هذه القبائل.