رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ساعة الرجل القوى


إن الاعتقاد السائد بأن عصر الزعماء الأقوياء انتهى مع القرن الذى انتهى، وأن ظهور هؤلاء كان مرتبطًا بمنعطفات استثنائية من قماشة حروب الاستقلال أو الحروب العالمية غير صحيح، فمتابعة الأحداث تفيد بأن تحديات القرن الحالى لا تقل عن تحديات سلفه وإن اختلفت المعطيات والظروف.
تبدو البلاد أحيانًا وكأنها تنتظر رجلًا.. رجلا قادرا على فتح نوافذ الأمل واستجماع الإرادات واختصار المسافات والمبادرة، حيث يتردّد الآخرون.. رجل يكسر الجمودَ والترهلَ والمراوحة ويجرؤ على التفكير من خارج القوالب المتوارثة.. ولا مبالغة فى القول بأن هؤلاء الرجال يظهرون من فرط الحاجة إليهم، ولأن المنعطفات الصعبة تحتاج إلى أصحاب رؤية وأصحاب قرار وأصحاب إرادة.
وأحيانًا يؤدى ظهور رجل استثنائى إلى تجنيب بلاد الهاويةَ التى كانت مندفعة إليها. يجدّد أحلام شبابها ويشركهم فى صنع مصيرها، يجنبها الخضات الدامية والانهيارات القاتلة.
لم يعد الغرب قادرًا على إنجاب «رجل قوى» تتجاوز هيبته صلاحياته.. الديمقراطية تخشى الأقوياء الذين يحملون توقًا عميقًا إلى سلطة بلا حدود.. لهذا برعت فى هندسة ترتيبات لكبح جموحهم، والدساتير لا ترحم.. لحظة احتفاله بفوزه يعرف المنتصر موعد مغادرته.. لن يتأخر البرلمان فى العرقلة، ولن يتردد الرأى العام فى الانقضاض، وستتولى مكائد المعارضين والصحفيين استنزاف رصيد الرئيس، وسيراق دمه يوميًا فى أزقة السوشيال ميديا.. واضح أن الديمقراطيات تراهن على دور المؤسسات واستمراريتها، لا على البطل المطلق اليدين.
المشهد مختلف تمامًا فى الحى الصينى من القرية الكونية.. نشهد هناك ولادة «ماو تسى تونغ القرن الـ٢١». وثمة من يعتقد أن بلاد ماو تستعد للعيش فى ظل إمبراطور جديد، ومن الخطأ الاعتقاد بأن الحدث بعيد ولا يعنينا. إننا نتحدث هنا عن بلد يبلغ عدد سكانه ١.٤ مليار نسمة، وعن الاقتصاد الثانى فى العالم.
قبل أيام فاجأت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى العالم، اقترحت إلغاء تعبير ألا يقضى الرئيس الصينى ونائبه أكثر من ولايتين متعاقبتين من دستور البلاد كل منهما خمس سنوات. وقالت أيضًا إن الحزب اقترح إدراج فكر شى جين بينج فى شأن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد فى دستور البلاد. وهو تعامل لم يحظَ بمثله أى من ورثة ماو. وهذا يعنى ببساطة أن رحلة الصين مع شى باتت مفتوحة، وأن موعد انتهاء ولايته الثانية فى ٢٠٢٣ صار مجرد محطة فى رئاسة مدى الحياة، حسده عليها الرئيس دونالد ترامب، مشيدًا بصاحبها.
واضح أن «شى» نجح فى السنوات الخمس الماضية فى تمهيد الطريق لإقامة مفتوحة على عرش ماو.. روّض جنرالات الجيش وبارونات الحزب، وقاد حملة صارمة على الفساد أطاحت برءوس كبيرة وعنيدة.
من يتابع الشأن الصينى يدرك حجم هذا الانقلاب.. فى ١٩٨٢ فرض الحزب أن يغادر الرئيس بعد انقضاء ولايتين، كان الغرض تفادى ظهور رجل أقوى من الحزب والمؤسسات ويختصر البلاد فى شخصه.. رجل يمتلك حرية التصرف بالبلاد والعباد على غرار ما فعل ماو، خصوصًا إبان «الثورة الثقافية» وما أدت إليه من خسائر بشرية واقتصادية.
الصين أيضًا تنتظرها تحديات غير مسبوقة.. صعودها يثير المخاوف لدى الدول القريبة والبعيدة.. مبادرة «الحزام والطريق» تعبر بوضوح عن التطلع إلى دور استثنائى على الصعيد العالمى اقتصاديًا وبالتالى سياسيًا.. سلوكها فى بحر الصين الجنوبى يعكس إصرارها على التمتع بموقع الدولة القوية.. تطلعها إلى احتلال موقع القوة الاقتصادية الأولى فى العقود المقبلة يرشحها للدخول فى اختبارات كبرى مع الولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الداخلى، التحديات ليست بسيطة، المحافظة على معدل نمو مرتفع وحفظ الاستقرار فى مجتمع شهد تحسن أحوال مئات الملايين من أفراده، ما قد يدفعهم إلى المطالبة بشكل من المشاركة فى رسم مستقبل البلاد لا توفره الأطر الحزبية الحالية. عملية التحديث المفتوحة والالتحاق بالثورات التكنولوجية المتعاقبة.. التعامل مع الثورة الرقمية وتحول كل مواطن لصحفى وناشر وشاهد. فى ظل هذه المعطيات أعاد الحزب الشيوعى الصينى فتح الباب لظاهرة الزعيم القوى. ربما لشعوره بأن وجود زعيم دائم يمثل حاجة داخلية وخارجية فى المرحلة المقبلة. حاجة للمحافظة على الازدهار والاستقرار معًا، وحاجة لتقدم الصين إلى موقع اللاعب الكبير على الساحة الدولية..
نقلًا عن «الشرق الأوسط» اللندنية