رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«المسيح» لم يكن ساذجًا


وقف مصدوما.. ومشاعره تساقطت من زلزال أصاب قلبه.. جلس على الأرض مشفقًا على نفسه.. موجعًا من طعنة الزمن الرديء.. كيف يا ترى وما الذي حدث؟!.. ترك المكان في حيرة من أمره.. وصل إلى قلايته ليتوحد فيها.. سالت الأفكار في عقله.. ومشاعره تظل مصدومة.. وفجأة سأل نفسه: هل "المسيح" كان ساذجًا.. حاشا وكلا.. ولكن لماذا هذا السؤال؟! لأنه ذهب ليعطيه خطابًا لكي يعبر عن محبته الصادقة.. فكان الرد: "إيه الهبل ده؟!".
إن الذي استهان بالمحبة لم يعرف الله ولم يتذوقه: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ".
كثير منا يستهين بمحبتنا.. بل هناك من يساومنا عليها بالمال، وكأن المشاعر أصبحت عملة رخيصة لا قيمة لها في هذا الزمن.
السيد المسيح لم يكن "ساذجًا" حينما أحب.. ولم يكن ضعيفا حينما غفر وسامح لأنه أحب.. ولم يكن قاسيًا لأن من حوله خانوه وأتعبوه وأهانوه بل أعطاهم فرصة للتوبة والعودة الى صوابهم وفي النهاية لأنه يحب.. فهل حب المسيح لنا "سذاجة"؟!
الكتاب يقول: "اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ".. ويقول أيضًا "إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ".. هل حينما طالب الله بأن نحب ونعبر عن هذا الحب بشكل أو بآخر نكون "هُبْلٌ".. ما أحلى هذا الهبل العظيم!
حينما قال لنا السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم".. كان يقصد أن نكون "ساذجين".. حينما قال: "لتَصِرْ كُلُّ أُمُورِكُمْ فِي مَحَبَّةٍ".. كان يقصد أن نكون في وضع مخلّ للعقل.. هذا أمر لا يصدق منا.
حينما قال السيد المسيح: "أحب قريبك كنفسك".. كان يقصد أن تكون تحت رحمة قريبك.. أن تكون ساذجًا أمامه.. وعجبي على هؤلاء الذين رخصوا الحب.. إنهم واهمون في طرق هاوية.. يسيرون في طرق خاوية من وصايا الله.
أعترف بأن الكثير منا يعتقد أن المحبة "ضعف".. هذه حيلة الشيطان لنا لكي نخرج عن طريق الحق والصواب.. حيلة من إبليس لكي يقوينا على وصايا الله وعصيانه.. لذلك لا تصدقوه ولا تسيروا على هذا النهج.
يتحدث معي أحد الأصدقاء عقب كل حادث إرهابي على كنيسة أو دير، ويقول لي: "انتوا كل مرة تقول احنا بنصلي علشان الإرهابي ده.. وتقولوا احنا سلاحنا الصلاة والمحبة.. وفي النهاية يقولي إيه سر القوة دي؟!".. قلت له لأن في قلوبنا سلام الله ومحبته الفائضة.. وهنا أريد أن أثبت لكم أن المحبة قوة وليست ضعفا.
قالوا إن البساطة دون حكمة تعتبر سذاجة، ولكن لم يقولوا إن المحبة دون حكمة هي سذاجة.. لأن الحكمة أساسها المحبة وبدونها لا توجد حكمة.. "بنو الحكمة جماعة الصديقين وذريتهم أهل الطاعة والمحبة".. "وَرَابحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ".. فربح النفوس لا يأتي إلا عن طريق "المحبة".. كان السيد المسيح طيب القلب جدًا وبسيطًا ولكنه حكيمًا، فلا تناقض بين الحكمة والبساطة، لأن البساطة في المسيحية هي بساطة حكيمة والحكمة المسيحية بسيطة، أي لا تعقيد فيها.
كتاب الله قال: "المحبة تحتمل كل شيء".. و"المحبة أيضًا لا تسقط أبدًا".. ويقول أيضًا: "أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ".. ولكن هناك من البشر الذين يسخرون من تلك الصفة العظيمة.. ببساطة كده "مضحوك عليهم".
هل الحب في زمن "الجوابات" التي كانت بين جدو وتيته كان نوعًا من "الهبل"؟!.. لماذا لم يشعر الرجل في أزمنة الماضي البعيد بأن كتابة خطاب لمحبوبته امر لا يستحق العناء أو نوع من السذاجة؟!.. لماذا كل البابوات والباشوات والقضاة والفنانون والرؤساء لم يسمعوا تلك الردود المستفزة التي تصف محبتهم بـ"الهبل"؟!
أعود الى من أصابته الصدمة نتيجة شعوره بأن محبته في نظر الآخرين مجرد سذاجة "هبل".. أقول له: "لا تتنازل عن هبلك".. أقصد محبتك ولتكن ساذجًا في نظر جميع الناس ولكن ستكون عظيمًا في نظر الله وفي نظر نفسك. 

اقرأ هذا المقال بقلبك لا بعينيك، لأن عينك سريعة النسيان، فالمحبة التي في قلوبنا أزكي وأطيب من الكراهية التي من حولنا.. أنا أحبك ولكن لست ساذجًا، فـ"المسيح" مش ساذج.