رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كارت الكونجرس والكنيسة الوطنية


لا شك أن سعادة المُتلقى لإسهامات أهل الرأى من أصحاب الضمائر اليقظة والحس الوطنى النبيل تكون سعادة غامرة عندما يلامس بعضهم أوجاع بعض أهالينا فى الوطن بشجاعة وتجرد نبيل، حيث إيمان هؤلاء بأن أوجاعهم هى أوجاع وطن على قناعة «الكل فى واحد».. فى مقال مهم وموضوعى الطرح والبناء لكاتب صحفى سياسى متميز لا تملك الانفلات من متابعته، «دستورى» الانتساب لجريدتنا الغراء، كتب «ماجد حبتة» بعنوان «كارت الكونجرس الأمريكى المحروق!».
فى فقرة استهلالية للمقال قال.. ليست صدفة، طبعًا، أن تتزامن الصفعة، صفعة القرن، التى وجهتها مصر إلى الولايات المتحدة بشأن «القدس»، مع مناقشة الكونجرس الأمريكى مشروع قانون يدعو الحكومة المصرية لإقرار المساواة بين مسلمى مصر وأقباطها، بزعم أن مواطنين مصريين يتعرضون لانتهاكات، وتتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بسبب ديانتهم. وليست صدفة أيضًا، أن يتم استخدام رعاع ومجرمين، ليقوموا فى اليوم نفسه، بارتكاب جرائم كتلك التى شهدتها كفر الواصلين بـ«أطفيح»، سعيًا إلى استخدامها لتأكيد أكاذيب أو لإثبات الافتراءات. إشادتنا بأداء الخارجية المصرية فى استصدار رفض أممى للقرار الأمريكى بالاعتراف بالقدس عاصمة لما توصف بـ«دولة إسرائيل» لن تمنعنا من انتقاد ميوعتها فى مواجهة مشروع القانون، الذى تَكونُ واهمًا لو اعتقدت أنه يستهدف الدولة ولا يستهدف الكنيسة. أما أداء الداخلية فى جريمة الاعتداء على «كنيسة» كفر الواصلين، فلا يوصف بأقل من كونه تواطؤًا مع المجرمين، حتى وإنْ تم إلقاء القبض على من قاموا بتحريضهم، خاصة أن ما قيل إن الكنيسة غير مرخصة، يعنى أن تتضاعف العقوبة وليس العكس.
انتهى الاقتباس من كلام يدفع للتفكير فى مدى مسئولية ذلك الكاتب المُقدر لأحوال الوطن والمواطن وطبيعة المرحلة التى نعيشها وتبعاتها السلبية والإيجابية، إنى إذ أتفق مع الكثير مما جاء فى المقال.. نعم، الأمر يدعونا للتفكير فى تلك المصادفة، وأضيف التى تبدو أنها سابقة التجهيز (حيث توقيت توالى تلك الأحداث يشير إلى مناخ تآمرى)، فقط أختلف معكم فى مسألة تأكيدكم استخدام رعاع ومجرمين لتأكيد أكاذيب لإثبات أو لإثبات افتراءات، وكأنها يا سيدى الحادثة الأولى من نوعها، لقد تكررت مثل تلك الحادثة بتفاصيلها وبذات سيناريو وتتابع المشاهد «فيلم متشاف ميت مرة»، والقرية تابعة لمركز أطفيح والتى لها سابقة إنتاج مشاهد طائفية، وهو ما جعلكم تتحدثون بأمانة الكاتب الذى عهدناه فى كتاباتكم عن وجود ثمة تواطؤ مع المجرمين، حتى وإن تم القبض على من أطلقت عليهم «رعاع ومجرمين» وهو إحساس عام لدى مواطنينا نابع من تكرار تلك الحوادث لنفس الأسباب الواهية وذات التصعيد الجنونى، فما معنى أنه لمجرد انتشار شائعة نية الكنيسة المجنى عليها «الكنيسة» فى شراء جرس، فتنتفخ أوداج هؤلاء غضبًا وليقرروا بدء العدوان الغاشم على بيوت الله، رغم نفى الرعاة للشائعة (وأيضًا رغم أن ممارسة الطقوس كاملة بكل أدواتها يكفلها الدستور والقانون).. ولا حساب ولا عقوبات رادعة للجناة فى النهاية، ما أضعف الثقة فى الأمل فى نيل الحقوق والصلاة فى بيوت آمنة للعبادة فى مثل تلك المناطق المشهورة بإنتاج شباب التشدد؟!
وفى هذا الصدد أتفق مع الكاتب وأشكر تناوله المنطقى فيما معناه أن عدم الترخيص ليس مسوغًا وتصريحًا بشن ذلك الهجوم المجنون لتدمير الكنيسة، أما استعراضكم الطيب للعديد من المواقف الوطنية للكنيسة المصرية عبر عرض مشرف بإسهاب يؤكد نبل المقصد وتمام الاستيعاب لدلالات أحداث التاريخ المشترك لأبناء الوطن الواحد، ودعنى سيدى أزيدكم من الشعر بيتًا بإيجاز موقف غير متداول إعلاميًا من المواقف الوطنية للكنيسة المصرية.. فى سنة ١٨٩٢ زار ثلاثة أساقفة بريطانيين المثلث الطوباوى الأنبا كيرلس الخامس البطريرك (١١٢) بالدار البطريركية وعرضوا عليه مشروعًا كنسيًا خطيرًا مؤداه اندماج الكنيسة الأسقفية الإنجليكانية بالكنيسة القبطية باعتبارها ابنتها فى العقيدة، لأن رهبان الكنيسة القبطية هم الذين قاموا بتبشيرها، وإنشائها قديمًا، وبصفتها أقرب الكنائس طرقًا إلى الكنيسة القبطية فى الطقوس الدينية، فقداسها هو نفس قداس مارمرقس كاروز الديار المصرية وأوقات أصوامها وأعيادها، وإن كانت مهملة اليوم بإنجلترا فإنها نفس الأصوام والأعياد القبطية، لذلك يرى الأساقفة البريطانيون أن أحسن طريقة هو اتحاد الكنيستين تحت رئاسة بابا وبطريرك الكنيسة القبطية بمصر، لإعادتها كما كانت قديمًا، قال حضرة الأستاذ أمين بك باسيلى، راوى هذا التاريخ، أن الأنبا كيرلس عندما فوجئ بهذا الاقتراح صمت قليلًا، ثم أجاب الأساقفة المقترحون بقوله، إنه يوافق على اتحاد الكنيسة القبطية بكنائس إنجلترا، وروما، وروسيا، واليونان، والإسلام.
فأظهر الأساقفة دهشتهم وقالوا وحتى الإسلام!! فأجاب البابا لِمَ لا، ألا يعبد المسلمون الله الذى نعبده؟ فاستأذنوا من غبطته وانصرفوا، ثم زاروه بعد ذلك مثنى وثلاث ورباع، وهو لا يجيبهم بغير الجواب المتقدم، فلما يئسوا منه، توجهوا إلى العميد البريطانى اللورد كرومر وقصوا عليه الخبر، فاستدعى المرحوم حبشى بك مفتاح وقال له اذهب إلى البطريرك وقل له لماذا ترفض عرضًا ثمينًا كهذا، فيه نجاح الكنيسة القبطية وتقدمها، وعظمتها وإعادة مجدها التاريخى التليد لها، فتوجه حبشى بك إلى الأب البطريرك وعرض عليه قول اللورد كرومر، فأجابه البابا بقوله (قل لسعادة العميد إن البابا رجل عبيط)، فلما أبى حبشى بك أن يحمل هذه الرسالة، أرغمه على حمل هذا الجواب إلى اللورد ردًا على سؤاله، فاضطر حبشى بك مفتاح، أن يقابل العميد البريطانى، ويوصل إليه رد البابا، فهز اللورد رأسه، وأُعجب بذكاء البطريرك وبُعد نظره، وإجادته فن التهكم، ولكنه أسرها فى نفسه.. وانتهز العميد فرصة الخلاف الحاد الذى حصل بين الأب البطريرك فى سنة ١٨٩٢ وبين المجلس الملى العام، وحرض عباس حلمى باشا الثانى خديو مصر، فأمر بنفيه إلى دير البراموس، ولكن سفير روسيا فى لندن وجه سؤالًا إلى البرلمان البريطانى مضمونه «لماذا نُفى بطريرك الأقباط إلى الأديرة؟» فكان الجواب إعادته إلى كرسيه مُكرمًا مُبجلًا.
وعليه، كاتبنا الرائع.. ترفض كنيستنا كل السبل التى تُحاك فى كونجرس العم سام لتدويل مشاكل الأقباط بعد، فهو مسلك ظلت تمتنع عنه حتى فى أزمنة الاحتلال عبر حقب وقرون تعايشوا فيها وشاركوا فى صناعة حضارة وطن عظيم ينتمون إليه بحماس، وليس لهم من مطالب سوى تحقيق كل آليات عدالة القانون، وكفالة حقوق المواطنة الكاملة، وعدم التمييز وفق مبادئ الدستور.