رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى أفراد البلاط السعيد أتحدث


لا ريب أن القيم هى أهم ما نتوارثه عبر الأجيال، وهى نتاج طبيعى لمدى وعى الضمير الذى أودعه خالق النفس البشرية منذ بداية الخلق، حتى قبل نزول التوجيهات الإلهية عبر الأديان والعقائد والكتب السماوية وانتشار وجود بيوت الله فى المعمورة.

إنه الضمير ووخزاته الموجعة التى كان من الضرورى استشعارها من قبل قابيل الذى كان يمثل ربع سكان الأرض بعد اغتياله لأخيه هابيل، ممثل الربع الآخر من سكان المعمورة، وهو أيضًا الضمير الذى استنفر كل قوى الخير والترفع عند يوسف الصديق فمنعه ــ رغم كل المغريات ــ من ارتكاب الفاحشة.. إنه الضمير الذى دفع برجل فى الستين من عمره فى حادثة شهيرة العام الماضى، وجعله يقفز فى البحر لإنقاذ فتاتين من الغرق لينجح بالفعل، إلا أنه دفع حياته ثمنًا لهذا الموقف النبيل، ثم بمشاعر المحب لا يتحمل ابن ذلك الرجل الشهم رؤية المشهد ونهاية حياة والده على هذا النحو، فيسقط ميتًا حزنًا عليه بجوار جثة أبيه.

ورغم أننا نسمع ونشاهد العديد من كُتابنا ومُبدعينا فى وسائل الإعلام المختلفة وهم يكررون عبارة أنهم ليسوا فى حاجة لملاحقة الأجهزة الرقابية لما يقولون أو يكتبون، وأنهم يمتلكون «فلاتر» خاصة، تستطيع تنقية خطابهم للمجتمع والناس من الشوائب والرذائل، إلا أننا للأسف نتابع من آن إلى آخر فى العديد من منافذ الكلمة والإبداع ما يحيل دنيانا إلى عالم صعب تتقلص فيه ــ للأسف ــ كل فرص التقاط الأنفاس، وتغشى معها الرؤية ولو من بعيد لمناطق الأمل.

لقد قال المفكر سلامة موسى منذ أكثر من نصف قرن: «إذا كان الأديب يكبر بمقدار مسئولياته، فإن الصحفيين هم أعظم الأدباء فى عصرنا، لأن أعظم ما يؤثر فى الجمهور ويغيره ويوجهه للخير أو للشر هو الجريدة، وذلك لقوة الإيحاء الذى ينشأ من تكرار ظهورها كل يوم.. ولذلك أول شرط لبلاغة الأدب الصحفى أن يكون من يمارسه أمينًا لقرائه، مخلصًا لمبادئه لا يخون ولا ينحرف، لأن فى خيانته أو انحرافه إفسادًا للقراء وبعثًا للشر، ومهمته أن ينير ويرفع مستوى البحث من ظلام الجهل والعامية إلى نور المعرفة والثقافة، ومن العاطفة إلى التعقل..

وأنا لا أتصور ماذا كان يمكن أن يقول موسى لو كان بيننا الآن، وقد حفلت أكشاك باعة الصحف بجرائد ومجلات صارت تبيع الكذب والوهم وتروّج لفضائح أخلاقية، متجاوزة كل خطوط الأمان القيمية والإنسانية.. تزيف وتشوه المعتقدات وتثير الفتن وتزرع المكائد وتفتعل الحروب وتصنع من المحتالين أبطالًا ومن المزيفين للتاريخ شهودًا للعصر..

وكتب الأستاذ الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى مقاله الافتتاحى بمجلة آخر ساعة، عدد 13 أغسطس 1952، مُناشداً ومُحذراً زملاء المهنة من الانغماس فى سلوكيات بغيضة غير مهنية.. من بعض ما كتب «صاحبة الجلالة الصحافة، وأفراد البلاط السعيد، يقومون هذه الأيام بدور غريب وعجيب!!... لقد استباحوا لأنفسهم مقعد النائب العمومى وجلسوا يوجهون الاتهام ذات اليمين وذات اليسار، ويحددون من الذى تُعلق رقبته فى حبل المشنقة، ومن الذى يُكتفى بوضعه وراء القضبان.. بعض أفراد هذا البلاط السعيد مضوا يُقلدون كلاب الصيد، تشم الأثر وتملأ خياشيمها بالروائح الطائرة فى الهواء، ثم تجرى تبحث عن الهاربين، وتنهش لحمهم وتسيل دمهم!!.. وبعض أفراد البلاط السعيد يُقلدون بابوات صكوك الغفران فى زمانهم عندما كانوا يمنحونها للتائبين العائدين إلى حظيرة الدين والإيمان، ومضوا يقررون هذا برىء وهذا مجنى عليه، وهذا لم يكن ذنبه، إلى آخر صيغ صكوك الغفران التى كثرت هذه الأيام..»، ولا أتخيل ماذا كان حال ورد فعل الأستاذ لو عايش زمن الصحفى والإعلامى الذى يهدد المسئولين ورجال الأعمال وشباب الثورات ويبتزهم، بترخص، بشرائط صوتية ومرئية، لا يعرف أحد كيف حصل عليها ولا كم دفع فى الحصول عليها، أو ذلك الصحفى الذى يُطلق من منبره سخائم أصحاب الآراء والتصريحات القبيحة الرذيلة باستضافتهم من أجل دعم رصيد ما يقدم من مواد إعلامية بالإعلانات التجارية..

وإلى أصحاب وكُتاب تلك النوعية من الصحف أذكرهم بمقاطع من المقال الافتتاحى لرئيس تحرير صحيفة المؤيد فى أول عدد للجريدة بتاريخ أول ديسمبر عام 1889، أى منذ 117 عامًا، والذى أراه صالحًا، لأن يشكل نواة حقيقية لوضع إعلان مبادئ حالياً.. يقول «إن معرفة واجبات مكاتبى الجرائد فى البلاد متوقفة على معرفة حقيقة الجرائد ووظيفتها فيها، فمن علم أنها المخبر العام والزاجر الصادع والخطيب والواعظ بالحق والمُربى بالحكمة والمشير بالصواب والمنذر بالبرهان والمصلح للخلف بأمثال السلف والمنبه لمطالب الحياة، بل صحيفة الأمم ترتسم فيها صور أعمال أفرادهم، فقد أحاط علمًا بمعرفة تلك الواجبات، فهم إن أحسنوا عملًا وصدقوا خدمة وتنزهوا عن الغايات وتنبهوا لمصادر الأخبار والأعمال وخبروا حقيقة البلاد وحاجاتها ودرسوا أخلاق الأهالى وعوائدها وسبروا أدواء النفوس وأدويتها دروا قيمة ما تتحمله ذممهم وتتكفل به هممهم من مطالب الهيئة الإنسانية كأنها الأمانة التى عرضها الله على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.. كل الأمانى الطيبة بالتوفيق لمجلس إدارة نقابة الصحفيين الجديد، وإليهم وكل زملاء المهنة كان الكلام.