رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإبداع حالة غير قابلة للحصار


«الوسطاء يمتنعون» لافتة عندما نراها تتصدر إعلانات البيع أو طلب الشراء، فإنها تعنى رفض المُعلن وتخوفه المريب إلى حد ما من سلوكيات باتت شائعة للأسف من جانب بعض السماسرة أو على الأقل من أجل توفير الوقت والمجهود، ومؤخراً يبدو أننا بصدد لافتة أخرى تُعلن «المبدعون يمتنعون»، وقد تم رفعها بعد أن خيم على أجواء الإبداع المصرى فى الحقب الأخيرة ظلالًا قاتمة ومناخًا قابضًا لنسمات الانطلاق لتطفئ حالة الوهج والفرح بممارسة فعل الإبداع الفطرى والاحترافى لدى عشاق الحياة بكل رحابات دنيا الخالق المبدع الأعظم، ومانعة لحالة الذوبان الممتع لممارسة الأداء الخلاق المتجدد وصولًا إلى مرحلة ألم المخاض اللذيذ لمعايشة لحظات ولادة كائن جديد يمثل إضافة إبداعية، وعلى أمل الحصول فى النهاية على المكافأة الكبرى فى تحقيق التواصل مع عقل ووجدان المتلقى.



لقد صار الفنان يعيش حالة صراع مع قوى متعددة تتعالى وتيرة وحِدّة مواقفها، حتى وصل بنا الأمر لضرورة أن نواجه التحدى بصراحة ولنسأل ممثلى تلك القوى.. ماذا يرضيكم؟، فإذا كان الأمر يتعلق- على سبيل المثال- بكليات الفنون الجميلة، وما تم اكتشافه مؤخرًا وبشكل مفاجئ صادم أنها مواقع ومنشآت ومعاهد علمية غير مرغوب فى وجودها أو وجود مُخرجاتها الإبداعية والجمالية وأيضًا العلمية، وأنها باتت تمثل صداعًا فى رأس البعض، فإن الحل بسيط وهو الأمر بإغلاق تلك المعاهد والاكتفاء بالأعداد التى تم تخريجها حتى يرحلوا عن عالمنا ويتنفس المجتمع الصعداء، ثم وفى خطوة تالية أو سابقة فلنسرع بإغلاق قاعات عرض الفنون التشكيلية والمتاحف الفنية ولنكف عن تنظيم المسابقات الفنية فى الجامعات والنوادى، أما إذا كانت المشكلة تتعلق بالفنون الموسيقية والمسرحية والتمثيلية فإن أمر مؤسسة أكاديمية الفنون العملاقة التى كان إنشاؤها ووجودها إنجازًا حضاريًا لأبناء الفراعنة فى العصر الحديث، فإنه لم يعد هناك ما يبرر استمرار دورها بعد أن تم توجيه الاتهام لمبدعى فنونها بإفساد حياتنا الروحية والإيمانية، وآن لهم أن يكفوا عن هذا الإبداع الحر.

وعندما تتم إثارة قضايا مناهضة الإبداع الفكرى والثقافى والإنسانى وأهمية تفعيل وتطوير الخطاب الثقافى فى مجابهة الفكر التديينى المتشدد المخاصم لثوابت الأديان، تكون المفاجأة مبادرة وسائل الإعلام وهرولتها إلى المؤسسات الدينية ولقاء رموزها لمناقشتهم والحوار معهم حول الأعمال الفنية التى تثير جدل أهل النعرات الطائفية والحديث بسطحية وجهل من يفتقدون أى علم بأصول النقد الفنى حول التحريم والتحليل، ودون أن يدركوا أنهم بذلك التوجه يدعون إلى إقامة حالة من الجدل المُتوه والمُغيب لحالة التفاعل التلقائى المأمول بين المُبدع والمُتلقى ومن ثم يُزيدون من إحساس تلك المؤسسات وممثليها بالشكل السلطوى الوصى الذى يمنع ويجيز بفتاوى لا يُدرك مُطلقونها فى كل الأحوال دور الفنون وخطابها التنويرى فى مرحلة هى الأصعب والأخطر فى تاريخ البلاد.

أود أن أسأل ــ على سبيل المثال ــ من تطوع من رجال الدين ومُعاونيهم ومُستشاريهم فى الكنيسة بإثارة حملة هائلة عند عرض فيلم «بحب السيما»، هل استطاعت كتيبة الكهنة التى تظاهرت ورفضت الفيلم الذى أراه أروع ما أنتجته السينما فى مجال رصد واقع اجتماعى للأسرة المسيحية فى زمن الستينيات بصدق وجمال فنى وروحى وإنسانى غير مسبوق فى أن تمنع عرضه على كل الفضائيات العربية وعبر انتشار وسائط الميديا الحديثة، وأن يمثل الفيلم مصرنا العزيزة التمثيل المشرف فى العديد من المهرجانات الدولية وأن يحصد العديد من الجوائز؟!.. وهل أدركوا أن تلك التظاهرة كانت خير وسيلة إعلامية وإعلانية روجت للفيلم وأكدت للناس أهمية ضرورة متابعة هذا العرض الذى أثارهم دون إبداء أى أسباب موضوعية مقبولة، وكانت النتيجة عكسية لأنه ثبت حتى للمتلقى البسيط الإدراك والوعى وبمقارنة بسيطة أن الكاهن الذى ظهر فى الفيلم كان أكثر سماحة وتدينًا وثقافة ووعيًا من هؤلاء الذين احتشدوا فى تظاهرات لرفض الفيلم، وكان قرار المواطن المسيحى أنه يشرفه أن ينتسب لأبوّة كاهن الفيلم المتسامح، ومن ثم تزداد مساحات ابتعاد الناس عن رموز التشدد غير المفهوم أو المبرر.

تذكرت، ومصر تُحيى ذكرى الشهيد البطل عبدالمنعم رياض كيف غضب كل من عرف قدر الشهيد الرمز لبشاعة تمثاله الذى يبث رسائل عكسية لا تمثله للمشاهد، بل وتنال من قدر بطولاته، حيث لا دراسة للعلاقة بين الفراغ والمساحة الهائلة والتمثال القزم على ارتفاع غير مناسب، فضلاً عن نظرة التمثال للأرض وهو الرجل العسكرى الأبى الذى لا ينبغى أن يمثله مجسم للخضوع والاستكانة والوهن، وعندما سألوا فاروق حسنى عن الجريمة وفاعلها قال بكل بساطة «مصر لم يعد فيها شبيه لمحمود مختار»، نعم كيف لنا بمختار جديد فى زمن تطوع فيه الداعية السلفى «عبدالمنعم الشحات» وغيره من كارهى الجمال والإبداع بإصدار تصريحات تحريم إقامة التماثيل إلى حد تغطية رجاله لتمثال رائع على شاطئ البحر السكندرى بغلالات بلاستيكية سوداء كئيبة، وحتى وصل الأمر لأن يخجل بعض أساتذة النحت من مهنتهم، فماذا ننتظر ؟!.