رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا لو عادت «كليوباترا» إلى الإسكندرية؟


ماذا «لو»؟، و «لو» هُنا لاتفتح عمل الشيطان فحسب، بل تفتح جراحًا تقيَّحت فى جسد المجتمع المصرى، الذى تكأكأت عليه كل العلل والأمراض المزمنة، لتطيح بما كانت تباهى به الأمم فى التحضر بروعة السلوكيات والقيم الجميلة. ودعونى أقف أمام واحدة من تساؤلاتى عن «ماذا لو؟» وأقول: ماذا لو عادت «الملكة كليوباترا» إلى عرشها بالإسكندرية، الذى تربعت عليه ردحًا من الزمن؟...

... ورأت كل هذا القبح بأكوام القمامة المتراكمة فى جنباتها، وكيف كان سيكون استقبالها لـ «يوليوس قيصر» وسط تلك الغابة من القاذورات والجيف؟، وعليك فقط ـ إذا أردت المشاهدة على الطبيعة ـ أن تحصل على تذكرة وتركب خط «ترام الرمل» أو «ترام القبارى» بعرباته التى هرمت وشاخت، لتشاهد على جانبى القضبان الحديدية التى أكلها الصدأ، أهرامات القمامة المليئة بكل مخلفات المطاعم الأمريكية وأسواق الانفتاح العشوائى المنتشرة فى كل مكان، وكأن التحضر والرفاهية لاتأتى إلا مع «دليفري» هذه المطاعم العالمية! فالمعدة ممتلئة.. والعقول خواء!!

وبالفعل.. هالنى ما آل إليه حال عروس البحر الأبيض، فلم تعد هى العروس التى كنا نهرع إليها صيفًا وشتاءً لننعم بالجمال والهدوء والنظافة فى كل شبر من أرضها، ونستنشق «يود البحر» القادم إلى أعماق الصدور فيملؤها نشوة ونشاطًًا وحبورًا لا ينتهى. رأيتها كالحيزبون التى فقدت كل مقومات الجمال والروعة فى شوارعها وأزقتها ومبانيها وشواطئها، وامتلأت سحنتها بالتجاعيد والنتوء والندوب، ولم تفلح المساحيق البراقة على الواجهة الخارجية فى إخفاء ملامح الشيخوخة التى ضربت أطرافها وجنباتها، ولم يعد لهذا الـ«يود» زخمه وعبقه، بل جاء محملاً بكل رائحة ماينزحونه إلى البحر من مخلفات المجارى والصرف الصحى غيرالصحي، ونرى جبال الملح وقد أكلت واجهات المبانى الجميلة ذات الطُرز اليونانية والإيطالية، واختفت القصور الصغيرة والفيللات على طول امتداد «الكورنيش»، ولتفرض سيطرة رأس المال سطوتها من أصحاب النفوذ، الذين يملكون المال ولا يملكون ذرة من مقومات الجمال، لتقفز مكانها ناطحات السحاب التى تخلو من أى مسحة لجماليات المبانى، كالتى كانت تزهو بها الإسكندرية فى عصورها الذهبية، وأيامها قال كل من زارها وذاق نعيم جوها وبحرها وروعته: إسكندرية ماريا.. وترابها زعفران!

والشىء بالشىء يُذكر.. لنسأل: لماذا أطلق المصريون هذه العبارة على الساحرة الإسكندرية؟ يقولون إن اسم ماريا اشتق من اسم «ميرت» فى اللغة الهيروغليفية وتعنى الميناء، ومدينة ماريا هى ميناء قديم على بعد 45 كم جنوب غرب إسكندرية، وقد أثبتت الحفائر الأثرية أن سكانها اعتمدوا على مصادر متعددة من المياه، حيث كان يوجد للنيل فرعان يربطان النيل ببحيرة مريوط كما اعتمدوا على مياه الأمطار الغزيرة والآبار فجعلتهم يمارسون نشاطًا مميزًا وهو زراعة الكروم وصناعة النبيذ، وكان لهذا النبيذ شهرة كبيرة فى أيام الفراعنة أو البطالمة والرومان، حيث كان يصدر كميات كبيرة منه إلى الخارج وروما بوجه خاص، وقد تغنى بجمال جوها وترابها ونبيذها الشعراء، فقالوا: «إسكندرية ماريا وترابها زعفران»، والزعفران تسمية لتراب الجنة، كما ورد فى الحديث عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما بناء الجنة قال: «لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك وتربتها الزعفران وحصبتها اللؤلؤ من يدخلها ينعم لا ييأس ولا يخرق ثيابه ولا يبلى شبابه»!

ومما لاشك فيه أن الحياة المريحة والتنوع بالمستجدات الحديثة فى سبل الرفاهية، أنتجت باقة واسعة غير متناهية من المنتجات والسلع، مما أنتج بدوره أطنانًا من المخلّفات والنفايات، ولكن طريقة تعاملنا مع هذه النفايات يتم بطريقة بدائية لاترتقى إلى ماوصلت إليه التكنولوجيا من مخترعات غير مكلفة للتخلص من تلك المخلفات، والتجربة اليابانية تحت أعيننا، فلماذا لا نأخذ بهابالاستعانة بجيش الشباب العاطل فى التخلص من هذه المشكلة؟ وتقول التجربة اليابانية نقلاً عن مصادر معتمدة: «يبدأ حل مشكلة القمامة من الفرز والذى يتم من المصدر فتجد فى كل مكان، مدارس، مصالح، نواد..إلخ، أكثر من سلة لتجميع نوع محدد من القمامة بحسب تصنيف محدد مثل الورق والبلاستيك والمعادن والأطعمة وغيره. يتم جمع هذه القمامة فى أماكن محددة، كل مكانمختص بمربع سكنى محدد، وبعد تجميع هذه القمامة يتم فرزها مرة ثانية يدويًا وآليًا من خلال مصنع به عمالة مدربة على الفرز الدقيق. ومعدات شبيهة بالحفار ومزودة بمغناطيس ضخم يستخلص المواد المعدنية. وأخرى لاستخلاص المواد الخشبية وهكذا. ما يتم فرزه مبدئيا هو ما يسهل تدويره والاستفادة منه كالمواد البلاستيكية والأوراق والأخشاب والمعادن. تنقل هذه المواد إلى المصانع التى تجيد تدويرها وفق ضوابط بيئية ووفق قانون محدد لذلك....».

ولأننا لا نملك التكنولوجيا اليابانية فيمكننا أن ننفذ المراحل الأولى التى لا تتطلب تكنولوجيا معقدة ويوجد منها الكثير فى مصر مثل تدوير البلاستيك والمعادن والورق والخشب وكل ذلك موجود فى مصر لكن يتم بشكل عشوائى، فيمكننا الاستفادة من التجربة اليابانية فى التنظيم و تحديد المسئوليات من خلال استخدام قوانين منظمة لذلك. الوقت يسرقنا.. والقُبـح يحاصرنا ويخنقنا.. فهل من منقذ؟