رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من عرف لغة قوم.. أمن شرهم!


ربما تكون بعض المظالم ـ أحيانًا ـ فاتحة خير للبشرية، فحين استبد ملك الهند «دبشليم» الذى حكم الهند بعد مرور فترة من فتح الإسكندر المقدونى لها، وكان ظالمًا مستبدًا، ظهر «بيدبا الفيلسوف» بكتابه الرائع «كليلة ودمنة» ليضع فيه كل النصائح الأخلاقية على لسان الحيوانات، وقدمه هدية لملك الهند «دبشليم»، كنوع من النصيحة المهذبة البعيدة عن الصدام مع السلطة الجائرة، ثم يلتقط الكتاب الطبيب الفارسى «برزويه» لينقله من بلاد الهند..

... ويقوم بترجمته من اللغة السنسكريتية إلى اللغة الفارسية، فى عهد «كسرى أنوشروان»، ووزيره «بزرجمهر» الذى يدين له هذا العصر بالقيام بدور كبير فى تأليف وترجمة الكتاب. ويدور الزمن دورته الأزلية، ليعتلى الخليفة «أبى جعفر المنصور» عرش الحكم، ويُعد هوالمؤسس الحقيقى للدولة العباسية، لكنه استبد بالرعية لتمكين أركان حكمه، وعندئذٍ قام «عبد الله بن المقفع» الفارسى الأصل بترجمة كتاب «كليلة ودمنة» من الفارسية إلى العربية، مع إضافة بعض المنمنمات ، وكان الهدف هوتقديم النصيحة لـ»المنصور» ليعيد النظر فى الكف عن ظلم الرعية، ولكن دفع «ابن المقفع» حياته ثمنًا، ليطاله الظلم أيضًا ويُقتل على يد الخليفة. ولقد حدث أن أعيدت ترجمة كتاب «كليلة ودمنة» إلى اللغة الفارسية عن ترجمة ابن المقفع، لضياع الترجمة الفارسية.

أمّا فى عهد هارون الرّشيد فاشتهر عدد من المترجمين كـ «بختشيوع بن جورجيس» الذى كان طبيباً ومؤلفاً، وله كتب مثل «التّذكرة»، كما ترجم العديد من الكتب. وكذلك الحجاج بن مطر الذى ترجم كتاب إقليدس. ويوحنا بن ماسويه الذى ترجم مؤلفاتٍ طبيةً من اليونانيّة إلى العربيّة، وعقد المناظرات والمناقشات العلمية، وهو أولّ من اهتم بترجمة كتب الحكمة. بعث بالهدايا لملوكأوروبا لإرسال كتب أفلاطون وأرسطو وجالينيوس وغيرهم، وأمر بترجمتها ونشر العلم والمعرفة بين النّاس. فى عهد المعتصم برز العديد من المترجمين كـ«ثابت بن قرة» الذى ألف كتاب «الذّخيرة» فى الطّب، وكتاب «حساب الأهلة» فى الفلك. ترجم عن اليونانية كتاب «أثافروديطوس» الذى شرح فيه كلام أرسطوعن «الهالة» قوس قزح. ولم يكتف بذلك وإنّما اهتم بتصحيح وتدقيقترجمات غيره، ولكن للأسف تمّ فقدان معظم ترجماته.

ولست هنا بصدد استعراض تاريخ الدولة العباسية، ولا إبداعات «ابن المقفع» وغيره من الذين اهتموا بحركة الترجمة خدمة للإنسانية، ولكنى أستعرض أهمية «الترجمة» فى حياة الشعوب، فالترجمة تحاول قهر العزلة والسياحة عبر المكان والزمان لبناء جسور ثقافية بين اللغات. فمن وجهة نظرى يظل المترجم هوالإنسان النبيل الذى يعيد الإنسان للتواصل والتلاقى من جديد على أرض الثقافة المعرفية، ليكون الهدف الأمثل هو فتح الطريق والتمهيد للأجيال لتلاقح الأفكار والثقافات الإنسانية.

ولنا أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بعض الكتب التى قام بترجمتها أساتذة فى العصر الحديث، وكان لها الأثر العميق فى شرح وتعديل بعض المفاهيم والنظريات، منها: كتاب «الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووى»، تأليف الكاتب د.فيليب تايلور، وقام بالترجمة الأستاذ سامى خشبة، الذى يقول فى مقدمته: «على رغم ان عنوان هذا الكتاب يحدد موضوعه هو«الدعاية للحرب» فإن مادة الكتاب ومنهج مؤلفه يجعلانه ـ فى وقت واحد ـ كتابًا فى السياسة، وفى الإدارة السياسية «النفسية والفكرية والمعلوماتية» للحرب، وفى الأسس الثقافية والاجتماعية للتعبئة العسكرية، ثم لشن الحرب ذاتها». الأعمال الكاملة للكاتب الروسى «دستويفسكى»، والتى قام بترجمتها أشهر المترجمين العرب، وهو الأستاذ سامى الدروبى، وقدمها فى 18 مجلداً، نذكر منها رواية «الجريمة والعقاب» مثالاً على مدى خدمة الترجمة للبشرية جمعاء ويقول أ. سامى الدروبى عنها: «تتجلى براعة الروائى فى التصدى الحياة الداخلية للمجرم، وفى التركيز على إبراز الجوانب السيكولوجية للجريمة، وعلى التناقضات التى تعصف بالذات الإنسانية وتشحذ الوعى المتنامى بحدوث شرخ أوانفصام يؤججه الصراع النفسى داخل الشخص فيتجلى على شاكلة ازدواج فى الشخصية. وقد أدت هذه الناحية إلى تبلور المنظور النفسى فى فهم أعمال دوستويفسكى الأدبية، وإلى وضع الروائى فى مصاف علماء النفس البشرية العظام».ومن الأهمية بمكان أن يُنسب الفضل لأهله، فلنا أن نذكر أن حركة الترجمة ترجع إلى صدر الإسلام فى عهد الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم» وبتكليف منه، فنُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم: «من عرف لغة قوم أمن شرهم». ومن أشهر من تعلم السريانية فى عهد الرسول هو زيد بن ثابت وقد تعلمها فى ستين يوماً وتعلم كذلك الفارسية والرومية. ليتنا نأمن شر أعدائنا فى زمن المؤامرات الذى نعايشه الآن!