رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا سيادة الرئيس.. أين الثورة؟


إن هناك تناقضاً بين الثورة والدولة والجميع يعلمون ذلك، ولكن ما يحدث أن الدولة قد انتصرت على الثورة، ولم نكن نتوقع ما يحدث الآن، فقد هب الشعب المصرى من أجل أن يحطم نظاماً ديكتاتورياً كريهاً على الشعب حتى يأتى بنظام يعيد له أمانه

واستقراره وحريته، فضلاً عن العدل الاجتماعى الذى ينشده، ولكن الفكر الإصلاحى اصطدم مع الثورة وهذه هى الكارثة، فكيف يمكن يا سيادة الرئيس أن ينتقل المجتمع من مبارك ونظامه إلى نظامه فقط!! لقد مارس نظام مبارك الاستغلال بأبشع صوره وانتقم من أغلب طبقات الشعب المصرى من أجل حفنة من رجال الأعمال استولوا على ثروات الشعب وأمواله وأرضه ونشر فى ربوع الوطن الجوع والفقر والمرض، كل هذا أدى إلى ثورة الشعب.

منذ العهد الملكى وكل الجمهوريات السابقة لم يتمكن أحد من أن يصبح هو قائد السلطة التنفيذية ومعه فى الوقت نفسه التشريع، أى البرلمان كله، ويقف غير قادر على اتخاذ القرار فى مواجهة قمم الفساد التى عاناها الشعب المصرى، بل تحول نظام مبارك نفسه باستغلاله وكراهيته للشعب إلى نظام الثورة، فقد أتت لنا بحكومة تسمى «تكنوقراط» تدير شئون البلاد فى غياب كل القوى السياسية والحزبية التى قامت بالثورة وسالت دماؤها فى ميدان التحرير وكل ميادين الوطن وهى القوى نفسها التى وقفت معك كى تهزم نصير النظام السابق وتأتى بك كى تحقق أحلامها، وأصبح النظام الآن يمثل قوة سياسية واحدة فى غياب متعمد لكل القوى.

فماذا حدث؟ لقد أتت لنا بوزير مالية هو مدير مكتب بطرس غالى والمنفذ لأفكاره وإرادته فماذا فعل؟ لقد أخفى ما حدث فى ملف أموال التأمينات الاجتماعية التى ذهبت مع الريح، بل وأخفى ما تم بشأنها من استيلاء بعض رجال نظام مبارك على قروض منها دون فوائد أو ضمانات، بل إن وزير المالية نفسه أتى بـ«محمد معيط» ـ المستشار التأمينى لبطرس غالى ـ وعينه نائباً لوزير المالية نفسه، وهو فى الوقت نفسه الذى قام بالدور الكبير فى إبادة أموال التأمينات وقدم تشريعات أحدثت مجزرة للعاملين بالمعاش المبكر، بل قام وزير المالية بتحويل المنافذ الجمركية إلى شوارع مفتوحة للتهريب لضرب الاقتصاد الوطنى دون أن يتخذ أى إجراءات لحمايته، وعينت فى الحكومة وزير التعاون الدولى وهو فى الوقت نفسه الذى قام نظام مبارك نفسه بإبعاده بعد أن حصل على مليون والنصف مليون أجراً شهرياً من خلال رئاسته لمصلحة الضرائب، أى أن نظام مبارك نفسه لم يرض عنه، فكيف ترضى عنه يا سيادة الرئيس!!

وكيف تأتى لنا بكوكبة وزارية هى أغلبها من الصف الثانى لنظام مبارك وزراء فى جميع النواحى ذات الأهمية الكبرى فى حياة الشعب المصرى.. أين وزراء الثورة هل استبعاد متعمد أم إقصاء شبيه بما حدث لك قبل الثورة؟ ورغم هذا كله.. أين موقفك من الذين نهبوا وامتصوا دماء الشعب المصرى خلال الثلاثين عاماً الماضية؟ فهل استغلال نظام مبارك للشعب المصرى هو نفسه فكر سيادتك؟ وهل الاستغلال واحد من نظام قبل الثورة إلى نظام ما بعد الثورة؟ فقد تم تطبيق ترسانة قوانين مبارك سيئة السمعة على طبقات الشعب المصرى بعد الثورة، فمازالت قوانين الاستغلال تمارس ضد العمال، حيث حولهم نظام مبارك إلى حوافز للاستثمار، هل سيادتك توافق على استمرار هذه القوانين التى تحول البشر إلى عبيد؟

إن اقتصاد السوق مرحلة فى سياسة الرأسمالية العالمية قد انتهت وتخلت عنها وما يحدث الآن فى أوروبا خير دليل على ذلك، فهل سياسة السوق هى سياسة سيادتك، حيث تم احتلال الاقتصاد المصرى لصالح الرأسمالية العالمية وسحقت الرأسمالية المصرية وأصبحت السوق المصرية محتلة بهذه السياسة، فهل مستمرة من نظام ما قبل الثورة إلى نظام ما بعد الثورة؟ وهل يمكن أن يصدق عقل أننا بثورة يناير استبدلنا رجال أعمال بغيرهم من رجال الأعمال مع بقاء الاستغلال؟

يا سيادة الرئيس.. لقد ارتفع معدل الفساد إلى أقصى مما كان عليه قبل الثورة، فهل هذا إنجاز؟ لقد ازداد معدل البطالة بشكل مخيف يهدد بنيان المجتمع نفسه ولم تتخذ إجراءات سياسية واقتصادية تحمى البلاد من هذا الخطر، كما ازدادت أيضاً نسبة الفقر داخل البلاد بأكثر مما كانت وهذا يعنى أن هناك من ينهبون ثروات الشعب بشكل أكبر وأشمل ولم تتوجه لهم أى ضربات من سيادتك رغم أنك وحدك تمتلك السلطتين «التنفيذية والتشريعية». الغريب أن الرئيس يملك القرار الجمهورى وهو ليس فى حاجة إلى أى سلطة أخرى.. وعندما صدر التشريع الخاص بالحد الأقصى للأجور والذى توقف عند الخمسين ألف جنيه كان هذا حفاظاً على كرامة الكبار ولكن القرار لم يتضمن الحد الأدنى للأجور، لأن المستويات الدنيا والطبقات الفقيرة ليست على جدول أعمال الرئيس، بل هو نحاها جانباً رغم الأحكام التى صدرت بحد أدنى للأجور لم ينفذها نظام مبارك ولا نظام الثورة!! وترك الرئيس أربعة ملايين مواطن من أصحاب المعاشات التأمينية والذين تقل معاشاتهم عن خمسمائة جنيه حتى مائتى جنيه ولم يلتفت إليهم رغم أنهم يصرفون مستحقاتهم من عائد أموالهم ورفع فى الوقت نفسه معاشات الضمان الاجتماعى لتصل إلى 375 جنيهاً معاشاً لهم.

هل هذا الموقف يمثل عداءً طبقياً من نظام العدل الاجتماعى لثورة يوليو وليس ثورة يناير!! إذن من حق رئيس الجمهورية أن يصدر القرارات والقوانين ولكن لصالح من.. وضد من؟

إن قراراً واحداً يتضمن إلغاء مهمة كتائب المستشارين التى استولت على كل الوزارات والهيئات والشركات والمصالح الحكومية، كذلك كل من تخطوا سن الستين يطبق عليهم القانون ويحالون إلى المعاش ويجرم كل من يستمر يوماً واحداً فى عمله غير الشرعى مهما كانت كفاءته، بل إن هؤلاء ليسوا أصحاب كفاءة، بل هم من دمر كل الكفاءات الحقيقية. إن هذا القرار الوحيد يمكن أن يوفر للخزانة العامة أكثر من 50 مليار جنيه، وهذا يبعدنا عن شرور وشروط صندوق النقد، ولكن الاهتمام بالكبار واجب وطنى أقرته ثورة يناير أمام حقوق الفقراء!!

إن الحرية ليست حرية الإعلام والصحافة والتظاهر فى الميادين، بل الحرية الحقيقية أن يعيش الإنسان فى أمان بعيداً عن الجوع والفقر والمرض يعمل ويسكن ويعالج وهى بداية الحرية الحقيقية. فهل حدث ذلك يا سيادة الرئيس؟ إن الأمن ليس الشرطة والداخلية، بل هو أكبر من ذلك بكثير، حيث يشمل جميع نواحى أمن الإنسان فهل تحقق ذلك؟ إننا نعيش فى أسوأ أيام حياتنا منذ عشرات السنين، فلم يعد الإنسان آمناً على نفسه وبيته وأسرته فهل تحقق الأمن للإنسان!

إن الثورة هى علم تغيير المجتمع فهل سعينا إلى تنفيذ ذلك؟

إن هناك أكثر من ألف شاب سقطوا دفاعاً عن هذا الوطن ضد نظام سفاح، فهل ذهبت دماء هؤلاء الشباب هدراً وهم كانوا يقاتلون منزوعى السلاح من أجل مجتمع أفضل تحت شعارات ثورة تنادى بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟

إن السياسة التى تقوم على الاستغلال واحدة فلا فرق بينها وبين أى سياسة أخرى، فلماذا إذن كانت الثورة؟

إن ثورة الشعب المصرى لم يقم بها تيار واحد بل كانت كل التيارات بلا استثناء، وما يحدث الآن هو استبعاد الكل من أجل تيار واحد فقط هذه هى الكارثة الكبرى.. إن سيادتك عندما كنت معارضاً وليس حاكماً كنت تجلس خلفى فى مقاعد المعارضة، وكان رأيك قوياً فى مواجهة نظام مبارك بحكومته وبرلمانه ووزرائه، ولكن وسيادتك أصبحت حاكماً للبلاد وتملك وحدك كل السلطات بأكثر مما كان يملكه آخر الملوك، فلم تنفذ ما كنت تعارض من أجله وأنت تملك زمام الحكم؟

إن الأيام فى الثروات لها من الأهمية القصوى وتختلف عن أيام الاستقرار. وتذكر ــ وأنا أعتقد أن هذا سوف يضايقك جداً ــ إن جمال عبدالناصر بعد ثلاثة أيام من الثورة أودع الملك فاروق ملك البلاد فى سفينة المحروسة وألقى به على شواطئ إيطاليا.

وبعد ذلك وخلال أيام أيضاً أحدث بالبلاد الكثير من التعمير والسيطرة رغم أنها كانت ثورة الضباط الأحرار ولم تكن ثورة الشعب المصرى ولم تسل نقطة دماء واحدة ثمناً لهذه الثورة ولم يكن عبدالناصر يملك حزباً أو قوى سياسية تناصره، بل كان يملك اتجاهاً وطنياً تقدمياً يشعره بحقوق الفقراء الذين كانوا يمثلون أغلبية الشعب المصرى، فهل الطبقات المصرية الفقيرة لم تعد فى جدول أعمالك واتجهت إلى شرائح اجتماعية تملك رأس المال على أنها صاحبة الخلاص مما تعيش فيه، وتذكر أن من تسبب فى الثورة وحول ميدان التحرير إلى رمز للثورة هم أنفسهم نفس الفئات التى تعتمد عليها على أنها وسيلة استقرارك فى الحكم.. إن الفرق بين نظام مبارك ونظامك هو الموقف من الاستغلال وحرية الإنسان، فهل موقف سيادتك يختلف عن استغلال مبارك لطبقات الشعب من الوسطى حتى العمال والفلاحين.. أم أن الاستغلال واحد ولكن ذو نظامين!

سيادة الرئيس اضرب الآن وإلا ستضيع الفرصة إلى الأبد.

نعم معاقل الفساد قد ازدادت قوة وأصبحت ذات أظافر وأنياب وهذا بسبب أنك تقف فى أول الطريق ولم توجه أى ضربات، بل الحقيقة تؤكد لنا أن معاقل الفساد هى التى توجه لنا الضربات الآن فهل يعقل أن رئيس جمهورية الثورة يقف متسلحاً بأقوى سلطتين ولا يوجه أياً من الضربات إلى هذه القوة، مستنداً ومتذرعاً بقوانين قد ورثتها عن مبارك نفسه؟ إن قوى الثورة المضادة وحزبها تعد نفسها الآن للانقضاض على الثورة حتى تنتقم من شعب أراد الحياة ولكن لم يستطع أن يسلح نفسه فى مواجهة هذا التوحش.

إنك يا سيادة الرئيس تقف فى مفترق الطرق وعليك أن تسير الآن فى طريق الثورة والشعب وحريته وهذا هو الصعب.. أما الطريق الآخر، فهو سهل ومريح وقصوره فاخرة ولكنه طريق يؤدى إلى ضياع ثورة الشعب ودماء شهدائه