رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة فى كتاب الأخلاق «2»


الإنسان المعطاء لا يتوقف عطاؤه على محيط أسرته أو على أفراد بنى عقيدته الدينية أو حتى على وطنه، بل يمتد – بكل الحُب والقناعة – إلى مستوى البشرية جمعاء. وهو ما يُسجله لنا الأستاذ أحمد أمين «1886 – 1954» فى كتابه الرائع «كتاب فى الأخلاق». فيقول: النوع الإنسانى مؤلف من أمم وقبائل مختلفة لكل منها ميزات وخصائص، وهى مع كثرتها تكوّن جسماً واحداً، كل أمة وكل قبيلة عضو من أعضائه، يستفيد كل عضو من سلامة باقى الأعضاء ويتضرر بما يصيبها.

يجب أن يشعر الفرد أنه عضو فى الهيئة الإنسانية، يحب الخير للناس جميعاً من أى جنس كانوا، وبأى لغة تكلموا، وفى أى صقيع سكنوا، ويشعر نفسه بالشفقة والرحمة على البائسين أيّاً كانوا. ليس النوع الإنسانى إلا أسرة كبيرة تقوم الأمم فيها والقبائل مقام الأفراد فى الأسرة، فيجب أن يكونوا جميعاً متعاونين على ترقية نوعهم وتحقيق الخير للإنسانية عامة.

إن الإنسانية مُصابة بمواضع ضعف كثيرة، فكثير من بقاع الأرض حُرمت من ضروريات الحياة، يعيش أهلها عيشة بؤس وشقاء، تفتك بهم الأمراض وتكتسحهم الأوبئة، ويفسد حياتهم الجهل. واجب علينا إزاء هؤلاء أن نرّقيهم ما استطعنا وأن نرسل إليهم أشعة النور والعلم ونمدّهم بوسائل العيش. هناك آباء مُجرمون حُكم عليهم بالسجن فحرم أولادهم العائل الذى يعولهم، أو تجار أفلسوا أو قعد بهم المرض عن مواصلة السعى فحُرمت أسرهم ما يقيم أودهم، وأفراد نُكبوا بعمى أو صمم أو عاهة جعلتهم من العاطلين لا يجدون ما يأكلون، كل هؤلاء وهؤلاء لابدّ أن ترحمهم الإنسانية فتزيل كربهم، وتأخذ بيدهم، بإنشاء المعاهد والمستشفيات وجميع المرافق. يجب أن يتساند القادرون لحمل العبء عمن ضعفوا عن مواصلة السير فى الحياة، وتخفيف ويلاتهم، ولذلك وسائل كثيرة كالاشتراك فى الجمعيات «مثل جمعيات الإسعاف والهلال الأحمر والصليب الأحمر والجمعيات الخيرية»، والإحسان إلى البائسين ونحو ذلك من ضروب الخير.

قد كانت أخلاق الناس الأوّلين قَبَليّة، لا يرون الخير إلا ما فيه نفع قبيلتهم، وليس عليهم حرج فى أن يسلبوا مال غيرهم، ويستبيحوا دماءهم، فما يُرتكب نحو قبيلة غير قبيلتهم لا يُعدّ جريمة، وإنما الجريمة أن يتعدى أحد أفراد القبيلة على مثله. فلما ارتقى الناس قليلاً اتسع نظرهم وكانت أحكامهم الأخلاقية أقرب إلى الصواب، فكانوا ينظرون إلى الأمة المكوّنة من جملة قبائل كأنها جسم واحد، ولكنهم كانوا ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة العداء كما كان الشأن عند اليونان قديماً. ارتقى الناس فيما بعد فكانوا فى حكمهم بالخيرية والشرية والحُسن والقُبح أوسع نظراً، تبودلت التجارة بين الأمم، وحسُنت الصلات، ووُجدت القوانين الدولية، والأخلاق الدولية، ولم ينظر الفرد من أمة إلى الفرد من أمة أخرى نظرة العدو لعدوه، وإن كانت لاتزال عند الأمم وفى النفوس بقية موروثة من آبائنا المتوحشين، ومن أفظع هذه الآثار الحروب بين الأمم، والناس سائرون إلى الكمال، وستتغلب حتماً فكرة الإنسانية فينظر إلى الإنسان من أى جنس كان كأنه أخوه، لا يظلمه ولا يخونه، يعدل معه كما يعدل مع أفراد أسرته.