رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البقاء فى الفضاء بعيداً عن الضوضاء


كانت التجربة فى رحلة طويلة استغرقت ليلتين فى الفضاء، صحيح أن البقاء على متن الطائرة من لحظة الجلوس على المقعد وحتى وصول نهاية الرحلة لم يتجاوز أربع عشرة ساعة، إلا أن العبور من أقصى الولايات الأمريكية وحتى الخروج والوصول إلى دولة مثل تركيا لم يتجاوز الساعات المشار إليها، وهى الأربع والعشرون، إلا أن العبور من الغرب إلى المشرق العربى هو انعكاس بين الغروب والشروق، ففى ذهابنا إليهم نكتسب ساعات تصل إلى عشر، وعلى العكس ففى عودتنا نتجاوز المسافة ذاتها ولعل ذلك هو السبب فى الإحساس بالدوار وعدم انضباط الوظائف الجسمانية لا سيما فى توقيت النوم والاستيقاظ.
ولما كانت الرحلة طويلة فهى تستغرق الليل كله لتصل إلى ليل البلد الآخر، وقد يظن  أن الأمر سهلاً، ولكن تجربتى تقول عكس ذلك، فالنوم المتقطع على متن الطائرة يصيب بالقلق فى الليلة الأخرى فى الدولة الأخرى الأمر الذى يحتاج إلى ضبط اتزان عجلة التفكير أى المخ.
أما تجربة البقاء فى الفضاء لساعات طويلة ينام فيها البعض كما لم يناموا من قبل الأمر الذى يحسدونهم عليه من لا يعرف النوم إلا مع الهدوء والراحة فهو وحده من يعرف كيف أراد الخالق – سبحانه - أن يهب الإنسان نعمة لا يعرف حق قدرها إلا إذا افتقدها، حتى صدق القول عن الصحة التى هى تاج على رأس صاحبها لا يراه إلا المرضى.
هناك فى الفضاء يراجع المسافر حساباته، ما له وما عليه، فالوقت متسع للتفكر والتذكر، وشريط الأحداث يبث على الهواء - أو فى الهواء - بعيداً عن وسائل الغرور والمجاملات التى تصاغ بالإطراء والمجاملات لتبقى الحقائق مواجهات بلا زيف.
والصورة الأخرى على أرض الوصول فى الساعات الأولى من اليوم التالى وموظف الفندق يرحب بالقادم وتسمعه يقول «أهلًا وسهلاً»، ويبدأ الحساب من اليوم الجديد، أى فجر الثلاثاء، وهنا تتذكر ساعة التوجه إلى مطار مدينة «لوس أنجلوس» وقد كانت الساعة الرابعة من بعد ظهر الأحد!
صحيح أن رحلة السفر من مطار دولة الوصول إلى الفندق الذى يقع على بعد خمسين كيلومتراً من المطار تكون فى هدوء - بالطبع اذا لم تلقانا سيارة واحدة فى الطريق - فاليوم يوم عمل والغد يوم عمل والطريق غير مضاء، وقلما يواجه المسافر مبنى.
صحيح أن الفندق ليس غريباً، فقد نزلته من قبل، فهو من أكبر الفنادق التى رأتها عيناى، فهو على ربوة عالية استطاع المهندس المصمم أن يصمم دورين كاملين تحت الدور الأرضى، كما أن المساحة الواسعة تجعل النزيل يمارس رياضة المشى داخل أروقة الفندق، حيث يشاهد القاعات الكبيرة والمطاعم الفسيحة التى تتسع للآلاف الذين ينزلونه، وهو متميز بالعديد من الميزات التى تجعل السائح يفضله رغم بعد المسافة التى تقطعها السيارة مدة ساعة كاملة دون توقف، فليست فى الطريق أى إشارة مرورية حيث لا توجد معوقات مرورية..
أما الخدمة فهى على مستوى راقٍ، فكل الخدمات مشمولة كما يقولون، كل ما بالفندق مشمول فى أجرة الإقامة التى هى أقل من خمسين بالمائة من نظيره فى فنادق العاصمة، فالمأكولات والمشروبات بلا حساب أو حدود فى الكميات، فضلاً عن النظافة والمعاملة، فأول كلمة تسمعها من موظف الاستقبال وهو يلقاك : مرحباً، ها هى الساعة تقترب من الثانية عشرة أى منتصف الليل وتتم المحاسبة اعتباراً من اليوم التالى.
لقد تأملت كيف يحتاج أصحاب الفنادق والقائمين على إدارتها أن يتعلموا كيف يُستقبل النزلاء فى فنادقهم فى بلادنا التى حباها الله بمميزات طبيعية قد لا تتوافر فى العديد من دول العالم، مثل تسهيلات الاستقبال من لحظة الوصول إلى المطار، حيث لا تستغرق إجراءات الدخول أكثر من دقائق معدودة رغم الجموع الغفيرة، فعدد ضباط الإجراءات يفوق الخمسين منفذاً، والمسافر لا يحتاج إلى ملء بيانات كثيرة، فضابط الجوازات يمرر جوازات السفر بالحاسوب، وفى لحظة يراقب شاشة الحاسوب ثم يؤشر على الجواز وتسمعه مرحباً وهو يسلمك جواز سفرك.
أما الهدف من هذا المقال فهو الغيرة الشديدة على بلدى، وقد علمت أن قانوناً جديداً قد صدر بأن جميع القادمين يطلب منهم ضرورة الحصول على تأشيرة دخول مسبقة، وقد سمعت ذلك من عدد من السائحين الذين يعشقون مصر، وقد تكون من مبررات هذا التعديل هى المعاملة بالمثل، وهذا حق لا تشوبه شائبة، أما التساؤل هو: ألا يعوق ذلك القادمين من دول مترامية الأطراف؟، فالولايات المتحدة الأمريكية تتكون من خمسين ولاية والمسافات بين سفاراتها وقنصلياتها تحتاج إلى سفر بالطائرة لما هو أبعد من السفر إلى أوروبا.
صحيح أنه لا بد من مبررات لهذا القرار، وربما يضمن للقادم أنه لا يمنع من الدخول طالما كان يحمل موافقتنا مسبقاً، وإن كان المعمول به أو كان حتى أيام قليلة البعض ممن حصلوا على تأشيرة الدخول لم تعطهم الحق فى الدخول مما يسبب الكثير من الحرج.
أما إن أصبح دخول مصرنا بالموافقة المسبقة من سفاراتنا وقنصلياتها فأرجو أن تُفاد هذه الجهات بقائمة مَنْ ترى مصر عدم الرغبة فيهم حتى لا يتعرض البعض من بعد سفر طويل وقبل أن يبدأ الدخول للراحة والتاريخ يسمع أنه غير مرغوب فيه، نعم إنه حق ولكن الحقوق تنظمها القوانين، والقوانين ليست حكراً على فرد أو جهة، بل هى قواعد عامة مجردة وضعت لخدمة الإنسان.
هنا أدركت نعمة البقاء فى الفضاء للتذكر والتأمل، وطلب مراجعة النفس، والقواعد، وحتى القوانين.