رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اختراع أُمّة.. فى كتاب

من العادات السيئة التى خلفها الرعب الذى صاحب وباء كورونا، عزوف قراء الصحف المحترفين عن الذهاب إلى باعتها واللجوء إلى قراءتها إلكترونيًا، ما أدى إلى تراجع توزيع الطبعات الورقية أكثر، التى كانت متراجعة بالفعل فى العالم كله، وبالطبع خسرت معظم المجلات والدوريات أيضًا الذين يتابعونها.

سلسلة عالم المعرفة التى تصدر عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب بالكويت، التى تم تأسيسها سنة ١٩٧٨ على يد الدكتور فؤاد زكريا وأحمد مشارى العدوانى، هى لا شك واحدة من أهم الإصدارات عربيًا، وأكثرها انتشارًا، ليس فقط بسبب حسن اختيار معظم العناوين والمترجمين، ولكن أيضًا بسبب رخص سعرها وجودة الطباعة والإخراج الفنى بفضل الدعم الذى توفره الدولة. آخر إصدار «الفينيقيون اختراع أمة»، الذى اقتنيته أثناء زيارة نادرة لبائع صحف «عشرة قديمة»، يقع فى ٤٧٢ صفحة ويباع بـ٣٥ جنيهًا فقط، وهو كتاب رغم الصرامة العلمية وكثرة المراجع والمصطلحات التى تهم المتخصصين، إلا أننا أمام عمل لا يخلو من فائدة ومتعة وتأمل فى الحضارات القديمة التى لم نتعرف عليها كما ينبغى بحكم الانشغال لا نعرف بماذا؟، مؤلفة الكتاب مؤرخة إنجليزية متخصصة فى العصر القديم، وتعمل أستاذة فى جامعة أكسفورد ولها صيت دولى بفضل مؤلفاتها النوعية حول الحضارات القديمة، أما المترجم فهو الدكتور المصرى مصطفى قاسم، الذى من بطاقة تعريفه بالكتاب له العديد من الترجمات المهمة التى نال عنها أرفع الجوائز العربية. الكتاب يتناول كيف أبحر الفينيقيون- قبل فترة طويلة من الإغريق والرومان- على طول البحر الأبيض المتوسط وعرضه للتجارة وإنشاء المستوطنات، لقد أدخلوا تحسينات على فن الملاحة واكتسبوا قطعًا أثرية ثقافية قيمة، لكن هوية هؤلاء البحارة الأسطوريين لا تزال لغزًا. يغوص الكتاب فى الأدب القديم والنقوش والعملات والشواهد الفنية القديمة بحثًا عن الهويات التى اعتمدها الفينيقيون، من الشرق إلى المحيط الأطلسى، ومن العصر البرونزى إلى العصور القديمة المتأخرة وما بعدها، ليخلص إلى أن الفينيقيين لا وجود لهم كأمة أو مجموعة عرقية، لقد تم تصويرهم كشعب متماسك له هوية وتاريخ وثقافة مشتركة فى سياق الأيديولوجيات القومية الحديثة، وهو ما يتناقض مع المصادر القديمة، ويرى الكتاب أن الإيمان بهذا السراب التاريخى أعمانا عن مجموعات وهويات واضحة بناها الفينيقيون فى البحر الأبيض المتوسط القديم، ليس على العرق أو الأمة، بل على المدينة والعائلة والممارسات الدينية والروابط الاستعمارية، يتتبع الكتاب- على مدى ما يقرب من ألفى عام- فكرة «الانتماء الفينيقى» التى ظهرت أول الأمر لدعم الأطماع الإمبراطورية لقرطاجة ومن ثم روما، ثم لترسيخ فكرة الأمة فى إنجلترا وأيرلندا، وأخيرًا لبناء الدولة فى لبنان، وترى المؤلفة أن الإنجاز الأكبر للفينيقيين، وهو ابتكار الأبجدية التى انتقلت إلى اللغات الغربية عبر اللغة اليونانية، وهو فى الحقيقة كان تطويرًا للخط المصرى، حيث أحس عمال ساميون استخدمهم المصريون فى أحد مناجم الفيروز بالقرب من سرابيط الخادم فى سيناء سنة ١٥٠٠ قبل الميلاد بسحر الكتابة المصرية وقوتها، واستمدوا منها الأساس للقراءة والكتابة الجماهيريتين. تاريخيًا انطلق الفينيقيون من ساحل جبل لبنان وأسَّسوا بداية من القرن الـ١٩ قبل الميلاد على الأقل، مستوطنات جديدة من قبرص القريبة حتى الساحل الأطلسى لإسبانيا، وذلك قبل زمن طويل من شروع اليونانيين فى الهجرة غربًا، كانت المستوطنة الفينيقية الأشهر فى الغرب هى قرطاجة التى أسّستها الأميرة الصورية ديدون، لتصبح قوة رئيسة فى ذاتها، نافست روما على السيادة فى الغرب، بل إنها كادت تنتصر عليها إبان عهد هنبعل برقة، واعتبرها المؤرخ اليونانى بوليبيوس الذى شهد دمارها النهائى على أيدى الرومان فى العام ١٤٦ قبل الميلاد، أغنى مدينة على وجه الأرض فى زمانها، ولكن على الرغم من ذلك، لم ينل تاريخ الفينيقيين وثقافتهم الاهتمام الكافى لدى المؤرخين والأثريين المعنيين بالعصر الكلاسيكى الذين أظهروا اهتمامًا أكبر بمجد اليونان وعظمة روما. المؤلفة قالت إن ذلك ربما حدث بسبب اعتبارات عملية، أهمها الحاجة إلى تعلم اللغات القديمة، فى مقدمة المترجم حاول أن يعبر عن رأيه فى الشأن اللبنانى بتعسف وبطريقة لا علاقة لها بموضوع الكتاب، فهو يرى أنه علاوة على أن الفينيقيين رفضوا رفع هوية جامعة واحدة، إلا أنه فى المقابل تم استدعاء الفينيقيين فى وطنهم الأم لبنان انفصاليًا وإقصائيًا وتضاديًا مع المحيط العربى، بهدف الانفصال بجبل لبنان والمدن الساحلية الفينيقية فى دولة للمسيحيين الموارنة!