رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرى أسمع أتكلم

كلنا فى الرغى سواء

قبل أيام قرأت مقالًا لأحد النقاد البريطانيين عن فيلم «بريسيلا» للمخرجة صوفيا كوبولا، وهو الفيلم الذى بدأ عرضه فى السينمات الأمريكية منذ عام أو يزيد، وحقق نجاحًا معقولًا فى شباك التذاكر، كما لقى استحسانًا وترحيبًا نقديًا واسعًا، ونال بعض الترشيحات لعدد من جوائز الأوسكار التى لم يفز بها، لكنه فاز بجوائز أخرى مهمة.. والحقيقة أننى اندهشت من حجم الهجوم الذى شنه كاتب المقال على الفيلم، ومخرجته، والقصة المأخوذ عنها، وكل ما جاء فيه من أفكار ومواقف، خصوصًا أننى شاهدت الفيلم عند صدوره، وكتبت عن كثير من مناطق الجمال به، فتوقعت أسبابًا للهجوم لا علاقة لها بالفن، وهو ما حدث بالفعل، فقد انطلق كاتب المقال، وختم، من فكرة الصورة الذهنية الرائجة لنجم «الروك أند رول» الأمريكى الأشهر إلفيس بريسلى، واعتبار الفيلم بمثابة كشف مخل لحياته الخاصة، يتضمن تشويهًا لتلك الصورة، ليعيدنى إلى أيام كنت أظنها قد ولّت وانتهت، عندما كان هناك جدل حول السيرة الذاتية للنجم أو الفنان، مَن يحق له سردها؟! وما المعايير والضوابط التى ينبغى أن تسير وفقًا لها كتابة أو تصوير الأعمال المأخوذة عنها؟! ومن هم الأطراف الذين يحق لهم تناول هذه السيرة؟!

وكنت أظن أننا فقط من نعيش على استهلاك مثل هذه القضايا، وأن الغرب قد انتهى منها، وختم الجدل فيها، أو لم يعد يهتم بها، خصوصًا مع موجات الأفلام والمسلسلات التى تنتجها منصات عالمية، والتى تصور حقائق تاريخية على غير ما كانت عليه، أو على غير حقيقتها، انطلاقًا من اعتبار العمل الفنى ليس بالضرورة أن يكون توثيقًا لحدث، أو واقعة، أو حياة لشخص فنان أو كاتب أو حتى بطل قومى.. وأن العمل الفنى، سواء كان فيلمًا أو مسلسلًا أو مسرحية أو رواية، يجب التعامل معه وفق معطياته وعناصره هو، بعيدًا عن أشخاص منتجيه، بمن فيهم الشخصيات التى يتناولها، لأكتشف أننا ما زلنا نسير فى تلك الحلقة التى ما تكاد تنتهى لكى تبدأ من جديد، وأننا، كلنا، فى الرغى سواء، لا فرق بين شرق وغرب، فكلنا نعيد إنتاج نفس القضايا ونفس الأفكار ونخوض نفس المعارك، بذات الحماس، ونفس الرعونة فى إطلاق الأحكام، ورش السباب والاتهامات فى الأجواء، وفى كل الاتجاهات.. وكأننا لم نبارح أماكننا، أسرى لعبة السير فى المكان. 

والحقيقة أننى منذ سنوات بعيدة كان لدى موقف عجيب من أفلام المخرجة صوفيا كوبولا، لمجرد أنها ابنة الرائع فرانسيس فورد كوبولا، رغم إعجابى بأدائها كممثلة فى دور ابنة الدون مايكل كورليونى فى الجزء الثالث من «الأب الروحى»، فترددت كثيرًا فى الفرجة على أفلامها كمخرجة، ولم أتوقع منها الكثير كمخرجة، خصوصًا مع الانتقادات التى وجهها لها كثير من المتخصصين الذين لم يعجبهم تمثيلها.. استمر الحال حتى شاهدت بالمصادفة تحفتها «فُقد فى الترجمة»، وهو الفيلم الذى ترشحت عنه لأوسكار أحسن مخرجة عام ٢٠٠٤، وفازت بأوسكار أحسن سيناريو، وأدمنت من بعده أفلام بيل موراى، وطريقته المتفردة كممثل لا شبيه له.. ثم ندمت على موقفى المسبق من أفلام صوفيا، فبدأت رحلة البحث عنها، وعن أعمالها، بل ومتابعتها وانتظارها أيضًا.. وربما لهذا سعدت كثيرًا عندما قرأت عن بدء عرض فيلمها الجديد «بريسيلا» فى دور العرض العالمية، وعلى الرغم من أننى لا أعتمد على النسخ التى تتم إجازتها رقابيًا فى أى مكان فى العالم، ولا أنتظر العرض العام، لكننى لسبب لا أعرفه حتى الآن، قررت الانتظار لمشاهدته فى قاعة السينما، وحتى يحدث ذلك بدأت فى القراءة عن الفيلم، ومتابعة تقييماته، خصوصًا أن موضوعه ليس غريبًا على أفلام صوفيا كوبولا، التى ترسم ملامح شريطها السينمائى بنعومة فائقة، وتحشوه بالتفاصيل الدقيقة لواحدة من الزوايا التى تعمل عليها دون الغرق فى كامل القصة، فهى هنا تفرد مساحة فيلمها التى تقارب الساعتين إلا قليلًا، لاستكشاف كوابيس الدخول فى علاقة سامة، مدفوعة بضعف الشباب على وجه الخصوص، أمام شهرة الطرف الآخر.

يتناول الفيلم حكاية بريسيلا بريسلى لعلاقتها بأسطورة «الروك أند رول» الأمريكى إلفيس بريسلى، مستندًا إلى مذكراتها الشخصية التى نشرت عام ١٩٨٥، بعنوان «إلفيس وأنا»، التى تم إنتاجها فى فيلم سينمائى بعد صدورها بثلاث سنوات، لكن الجديد فى فيلم صوفيا كوبولا هو تناولها مشاعر المراهقة بريسيلا بوليو «اسمها الأصلى»، عندما تلتقى لأول مرة بنجم «الروك أند رول» فى إحدى الحفلات، كفتاة فى الرابعة عشرة من عمرها، وكيف أنه كان يتحول خلف الكواليس إلى شخص غير متوقع، ضعيف، متماهٍ مع عزلته، بينما هى فتاة صغيرة مفتونة بما يملكه من جاذبية وشهرة طاغية، تكافح حتى لا تفقد نفسها وسط ما يحيط به من بريق وسحر.. ويتعمق فيما تراه بريسيلا من جوانب غير مرئية للأسطورة الأمريكية، مسلطًا الضوء على وجهة نظرها الأنثوية فى عالم يهيمن عليه الذكور، كما يصور تحديات العلاقات السامة التى تجد نفسها متورطة فيها كطرف رئيسى، كما يستكشف علاقة التودد المطولة بينهما، وزواجهما المضطرب، مقدمًا صورة لضعف بريسيلا، وما تمر به من يأس وخيبة أمل، ولا يخجل الفيلم من تناول الطبيعة المفترسة لهذه العلاقة، وقوة الشهرة المسكرة وتأثيرها على الشباب، والتى غالبًا ما تكون النساء ضحيتها الأولى.

بالطبع لم تمر ساعات على طرح الفيلم فى دور العرض حتى بدأت الانتقادات، والانفعالات المبنية على الصورة الذهنية الشائعة للنجم الأمريكى، والصورة التى تقدمها صوفيا كوبولا له، ولزوجته، ولحياته الخاصة.. وهى الانتقادات التى لم أتوقف عندها وقتها، ولا أظن أننى سوف أتوقف عندها الآن.. وسوف أعيد الاستمتاع بالفيلم، واستعادة حالة النشوة بالفن التى غمرتنى عند مشاهدته لأول مرة، وليذهب جدل السيرة الذاتية، وحقوق ملكيتها إلى حيث يريد من يعيدونه إلى مائدة الكلام.