رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوهج المدمر.. قليل من الإظلام قد يكون الحل

فى وسط الدوامة والدوائر المتوالية التى لا نستطيع القفز خارجها، أصوات، أضواء، صخب، ضجيج، فلاشات، تحتاج أن تغلق كل النوافذ، تسد أذنيك وتغمض عينيك، تتوسد الأرض، تركن ظهرك لجزع شجرة، هل تستطيع ذلك؟

هل تستطيع أن تغلق عينيك وتستمتع بالظلام؟.. حتى إن كنت لا تستطيع فعليك أن تحاول، أن تجرب، فما يحيط بنا من ضوضاء سمعية وبصرية كاد يفقدنا حواسنا، يقضى على قدرتنا على التواصل الباطنى مع أنفسنا، التواصل مع كل ما هو صامت أو ساكن، التفكير، التأمل، الخيال.

استخدامنا المفرط لحاستى السمع والبصر يجعلنا محاطين بدرع من الروتين المتكرر الذى يُخدر حواسنا ويضعفها. إن أخذ هدنة، فسحة من الوقت، والبقاء فى منعزل، صامت مظلم، مجرد أن تغلق نوافذ غرفتك، والاستكانة للصمت والظلام، سيجعلك تكسر نمط الروتين المرهق لحياتك، وليس الأمر مجرد أخذ قسط من الراحة، لكنه علاج للكثير مما نعانيه من عوارض بسبب هذا الصخب الصوتى والضوئى الذى يحاصرنا كل لحظة من لحظات حياتنا. 

لقد أصبح التلوث الضوئى على سبيل المثال محطًا لدراسات كثيرة، تتحدث عن تأثير الكثافة الضوئية المؤذية التى نتعرض لها، وكيف اختفى الليل من حياتنا، بعد أن كانت الدراسات القديمة تركز على تأثير البقاء لفترات طويلة فى الظلام والاضطرابات التى ينتج عنها بدءًا من الاكتئاب وحتى مرض السكرى، ونقصان فيتامين د.

ومع تزايد مظاهر المدنية وتزايد استهلاك الضوء ظهرت دراسات جديدة تؤكد أن فقدان الظلام يسبب نوعًا آخر من الاضطراب، يؤرق جودة نومنا وأسلوب حياتنا، مما يتطلب إعادة النظر فى مفاهيمنا القديمة عن كون الظلام مصدرًا للقوى الشيطانية والجهل والخوف، وأن النور دائمًا مصدر للخير، فحتى الظلام والنور يخضعان لمفهوم النسبية وكثافة وسوء الاستخدام والإسراف والإفراط حتى فى الضياء يمكن أن يؤذى الإنسان، وهذه النظرة الجديدة تعيد التوازن الطبيعى للحياة.. التى يتساوى فيها الليل والنهار، فلكل منهما أهميته ودوره فى حياة الإنسان، وفى البقاء على كوكب الأرض، وما يحدث من رغبتنا فى تواجد الضوء فى كل وقت وسيطرة الإضاءة بالليل وتحويله إلى نهار تسبب فى خلل نفسى وصحى، نتغافل مظاهره مثل الأرق، انتشار السرطانات، الإجهاد النفسى والعصبى، ألم العضلات المزمن، والسمنة.

إن الانسجام قليلًا مع الظلام وغياب الضوء سيكون الفسحة التى نعطيها لحواسنا كى تتأقلم على التعامل والتصرف مع بقية حواسنا، وسيجعلنا ننتقل من منطقة الراحة واليقين إلى منطقة الشك والحيرة، مما يحفزنا على تنمية مهاراتنا العصبية والنفسية فى مواجهة الصورة النمطية المكونة سلفًا والمدركة بالنظر. 

تقول الدراسات «عندما نواجه الظلام الدامس، نختار تحدى الحواس المشوشة. بمجرد أن يحاول المرء أن يعيش الظلام للحظة فإنه سيبدأ فى التحرك خارج (منطقة الراحة للإحساس الجسدى المألوف من أجل تحقيق تجربة حسية متزايدة).. حرفيًا، كما لو أن أجسادنا وأرواحنا أصبحت أكثر قدرة على التكيف مع التجارب الجديدة وأكثر انفتاحًا على العالم».

بعض من الظلام فرصة لزيادة فضولنا تجاه الحياة وتحسين إمكاناتنا من خلال ممارسة العيش فى حالة من عدم اليقين والتعامل معها دون منظور مسبق للأحكام. بمجرد أن تعيش قلوبنا وعقولنا فى ثقافات ومساحات حسية غير مألوفة، فإننا نزيد من حساسيتنا وقدرتنا على رؤية ما لا يستطيع الآخرون رؤيته. تمامًا كما يحدث للإنسان فى تجارب السفر والانتقال بين بيئات مختلفة، فيستيقظ الفضول والدافع لاستكشاف المجهول. مواجهة الظلام تجلب مجموعة من المشاعر وتزيد من عدم الغموض. إن التمرين والتجربة يزيدان من وعينا الذاتى ويكسران درع الخوف من عدم اليقين. 

فتجربة البقاء فى الظلام لبعض من الوقت تتحدى مخاوفنا السابقة، كما تعزز من قدرتنا على تمييز المعانى المختلفة، وزيادة الفضول، وإعادة توظيف بقية الحواس، مثل اللمس والشم والتذوق والاستماع العميق للأصوات، بعيدًا عما تقدمه حاسة البصر لنا من أنماط وقوالب جاهزة.