رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من مقامات الغضب

ما هى الفطرة؟ الفطرة أن تحتضن الأم أبناءها، تربيهم، تسهر عليهم، ترعاهم، تحيط بهم.. هل هذه فطرة أم عادات؟ فى الجاهلية كان العرب يرسلون أطفالهم الرضع إلى البادية، تتولى رعايتهم مرضعات، كى ينشأوا فى مناخ صحى سليم ويعودوا لأمهاتهم بعد فطامهم، النبى محمد حدث له ذلك، ولم تتهم السيدة آمنة بنقص الأمومة، بل إنه عليه السلام كان يدعو لها.

الجميع كان متفقًا على ذلك، ولم تكن المرضعة تنازع الأم أمومتها. ما حدث معى أن هناك من حاولت ونجحت فى أخذ ابنى منى، وأنا انهارت مقاومتى من كثرة الشد والجذب، قد يكون هذا ضعفًا، جبنًا، أنانية، عدم قدرة على المواجهة، أنا نفسى رغم أنى الوحيدة التى عايشت كل الأحداث وكنت دومًا فى المركز، أحتار فى نفسى، أنا فى حالة اضطراب داخلى شديد، ليست لدى رؤية ثابتة، أرض صلبة، تصور محدد عن العالم، ربما كانت مرونتى هى السبب، لو أن عائلة زوجى كانت أكثر إنسانية، لو أن زوجى كان أقل أنانية، لو أن حماتى كانت أقل سيطرة، لو أن حماى كان أكثر نخوة، ربما لم يكن لتكون هناك أزمة أو دراما كالتى وصلت لها حالتى.

موسومة أنا بالمرض، بالنقص، أنا امرأة غير سوية، والمرأة حين تخير بين أمومتها وأى شىء آخر فإنها- فى حالة كونها سوية- تختار الأمومة بلا تردد. وأنا اخترت أنا أترك ابنى، لم يكن هناك خيار، أنا أجبرت، لم يكن لدى إرادة حرة، معرفة، وكان مفهومى أن أتخلى عن ابنى لمن يستطيع أن يرعاه أفضل.. لكن الأمومة غريزة لا تحتاج لتعلم، وماذا إن تم تعديل هذه الغريزة، تضليلها تشويهها؟ ماذا إن فقدت بوصلتها؟ ما بينى وبين شريف أمومة بيولوجية فحسب، وحدى أشعر وأتألم بها، لكنه لم يشهد ذلك، بل شهد غيابى عنه. ما كان ظاهرًا لأهلى، لأبى، أننى أفضل زوجى، لكن.. عدم تفهمهم وضغطهم المستمر للانتباه لحالى جعلنى أفر وأبتعد عنهم.

وفى النهاية تحققت كل توقعاتهم وعدت للبيت الذى قاومت أن أعود إليه.

أشعر برغبة فى العطس، باقات الزهور التى تملأ «استقبال» الفيلا وكروت التهنئة وعلب الهدايا المغلفة برذاذ لامع تستثير أعراض الحساسية لدىّ، كل الزهور والكروت مجاملة لأبى، لا يحتاج أحد أن يجاملنى أو يتودد إلىّ، أتأكد من قائمة المدعوين؛ وزراء ورجال أعمال، قضاة ومحامين، الأفراح الملتقى الرسمى لإنهاء الصفقات وتمرير التعاقدات الاقتصادية والسياسية.

أرتب الكروت تتعثر أصابعى فى الكارت الذى كنت أبحث عنه.. اسمه مكتوب بالإنجليزية بخط منمق، د. نبيل الخادم، تمنيت ألا ينسى الموعد أو يرسل دليلًا لتذكره، وقد فعل فزادنى الأمر اضطرابًا وإرهاقًا.. تعبت من السباحة فى المياه العميقة لعواطفى الغامرة، بعد كل تجربة نفترض أننا غدًا سنصبح طبيعيين، لكن هذا الغد لا يأتى.. وأظل أهبط، أهبط.. حتى صرت أخاف هبوط السلالم، تتحسس قدماى السلالم الرخامية الملساء الزلقة، أخشى النزول، الهبوط، أنزلق إلى ما لا أعرف، لا أنزل سلمًا وأنا أرتدى حذاء بكعب، اشتد بى الخوف وأنا أحمل أروى كى أذهب بها إلى الوحدة الصحية لتطعيمها وأخذ عينة من دمها لإجراء فحص اليود، أضم رضيعتى وأتخيل انزلاقى كل لحظة وماذا سأفعل إذا حدث ذلك، كل ما يعنينى هو التشبث بشىء، فقعدت وارتكزت، وأروى فى حضنى نائمة لم يفزعها شىء.