رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كسر الخاطر

لم أُخبر أحدًا بما عرفته عن حكاية نجاة.

أخذتها لمقابلة أمى وجدتى، استقبلتاها بترحاب، وتزوجنا.. لكننى لم أستطع خلال سنوات زواجنا أن أراها كلية، كنت أشعر بوجود ضباب، حجاب يغلفها.. لم تكن واضحة لى، أراها دومًا من خلال شىء، حتى فى حضنى كنت أغمض عينى، تتشكل صورتها من حرارة جسدها من لمسات أصابعها، كفيها الرقيقتين، يديها اللتين تتوهان فى يد جافة لضابط.

بعد سنوات من الزواج، بعد موتها، رحيلها المفاجئ دون إنذار، تولَّد دافع داخلى لكشف حقيقتها، ليس لأنها غير مرئية أو مشوشة، لكن لأننى أحتاج لنظارة أو مصحح للنظر.

أكثر من مرة وجدتها ترقص، تدور حول نفسها أو حول نقطة لا يراها سواها، حذرتها من دخول الغرباء.

لكنها لم ترد، بل ابتسمت وربتت على كتفى.

لم تغضب لغيابى المتكرر، أو تتشاجر معى، وإذا خرجت حانقًا لم تكن تلتفت أو تترك إبرتها ومفرشها، تظل ساكنة ووجهها منيرًا مشرقًا، تمنيت أن تترك مكانها أو تنتبه لغيابى، أن تفتقدنى، كانت مكتفية بشىء لم أعرفه أو ألمسه، هل تحب رجلًا آخر؟ هل تعرف أحدًا؟ بحثت فى دولابها، تترك كل الأدراج بلا إغلاق محكم.

وجدت مذكرة بقطيفة زرقاء، سيظهر سرها، وسأعرف من مذكراتها ما تحاول أن تخفيه، لم تكن مذكرات، كانت عبارات مكتوبة بخط جميل، أشعار، حكم.

- من أين نقلت هذه العبارات؟

أشارت للراديو: أكتب ما أحب تسجيله، زدنى بفرط الحب فيك تحيرًا.

- تحبين الشعر؟

ابتسمت.

تعشق الراديو، عندما اشترينا التليفزيون، لم تتابعه كثيرًا، تجلس معظم الوقت بجوار الراديو.

لذا كان طبيعيًا أن أجد كلمات أغانٍ من قصائد أم كلثوم، لكن أن توجد أجزاء من موعظة الجبل للمسيح، من أين جاءت بها؟

- أحيانًا أتذكر أشياء، أكتبها من نفسى.

تمنيت أن أكون فى غناها، عدم حاجتها لمرآة، عدم حاجتها لأحد، هى مستكفية، الشمس تشرق من داخلها، لا تحتاج لضوء.

سألتها.

- أنت سعيدة؟

اقتربت منى، قبّلت جبهتى، يداها تحيطان بوجهى، ووضعت رأسى على فخذها، أخذت تمسد شعرى.. كدت أطير، تحولت لكائن أثيرى من السعادة، لكن دمعة من عينها، سقطت على خدى، أشعلت الحرائق فى روحى.

لماذا هى حزينة؟ وأى شىء تفتقد؟

لم يكن هناك غير صوت المنشد فى الليلة الختامية للسيدة نفيسة، حاولت أن أسرى عنها، فكنت أحرص فى الإجازات على الذهاب معها للسينما، لكنها كانت تحب المسرح، والسيرك أكثر.

لا يتوقف إلحاح هند: متى ستأتى؟ من أين آتى بأخ ثانٍ؟!

اتصلت بها:

- تعالى القاهرة وعندما يتصل سأخبره بطلبك.

- لكننى أن أترك سراى أبى.

- هو عارف، نعطيه فرصة يدبر أمره، وهناك أمر آخر مهم.

- خيرًا؟

- أريد أن نحدد نصيبى من الميراث.

- الأوراق كلها فى مكتبك، المحامون معهم كل شىء.

- لدىّ مشروع أريد أن أستثمر فيه جزءًا كبيرًا مما أملكه.

- وأنا أريد أن أشاركك فيه.

- هذا المشروع دون أرباح، وقد لا يغطى تكاليفه.

- لا يوجد مشروع دون أرباح.

معك حق يا هند، مفهوم الربح هو المتغير، لكن الخسارة دائمًا هى الخسارة تظل تطاردنا وتشعرنا بوطأتها، وعداد الأيام لا يكف عن استنزافنا، عندما صرخت سلوى: ماما طارت!

حاولت بكل قوة أن أزيح هذه الصورة من ذهنها، خشيت أن تقلد نجاة، وجدتها مكفية على وجهها فى «الفراندة» الكبيرة، فسر الطبيب وفاتها بأزمة قلبية حادة، وأن قلبها كاد ينفجر فعليًا، تعرض لبذل مجهود لم يتحمله، هل كانت ترقص؟ هل انجذبت؟ كان وجهها صافيًا، مستريحًا، لكن يدها الباردة كانت توحى بانتهاء الألم، ارتاحت بعد جهد كبير، جعل كل ملابسها مبتلة بالعرق، ورأسها مغسولًا، وكل منابت شعرها مبلولة، تظل نجاة هى سرى، موتها كل خسارتى، انكسارى الذى لن أستطيع جَبره.