رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملتقى أكادير للرواية.. أيام من السحر المغربى «2»

لقرون طويلة قبل رحلات كولومبوس عام ١٤٩٨، ظل الإنسان يعتقد أن اليابسة الموجودة فى غرب قارة إفريقيا والمطلة على بحر الظلمات أو المحيط الأطلسى، هى حافة العالم آخر حدود الأرض، فكانت بلاد المغرب هى موطن غروب الشمس ونهاية العالم القديم من بلاد المشرق.

توجهت إلى المغرب لحضور ملتقى أكادير للرواية، وقد حملت هذه الدورة عنوان «الرواية والخطاب الصوفى». 

غادرت القاهرة فى الثامنة صباحًا ووصلت فى الثامنة مساء إلى «أغادير» أو «أكادير» كما ينطقها الأصدقاء المغاربة، أكادير، وأنا أحب نطق أغادير لأنها تذكرنى بالغدير أو نبع الماء، وكنت أظن أن اسم المدينة هو جمع غدير، لكن الحقيقة التى عرفتها هى أن «أكادير» اسم أمازيغى يعنى الحصن المنيع أو مخزن الممتلكات والحبوب. وكان فى انتظارنا الصديق العزيز الدكتور عبدالعز الراشدى أو «عبعزيز» كما كنا نناديه، المبدع الروائى الذى قدم للمكتبة العربية أعمالًا تتنوع بين الرواية مثل رواية: «مطبخ الجب» وأدب الرحلات كما فى كتابه الصادر حديثًا «جراح المدن من درعة إلى شيكاغو»، الذى اكتشفت فيه ولعًا بكل ما هو مصرى من الأغانى والأفلام التى يحفظ إفيهاتها ظهرًا عن قلب، إلى جانب الجدية والاجتهاد والعمل الدءوب المستمر الذى جعل من ملتقى أكادير للرواية، عبر عشر سنوات، قِبلة للمبدعين العرب من كُتاب الرواية، وجعل من مدينة مغربية جنوبية تبعد عن العاصمة الرباط ٥٢٠ كم ولا يتجاوز عدد سكانها نصف المليون نسمة، عروسًا للثقافة العربية. خلال الملتقى تم تكريم الكاتب المغربى عبدالإله بن عرفة ومشروعه الروائى فى كتابة الرواية العرفانية، ولم يكن قد سبق لى معرفة هذا المصطلح، فنحن نعرف الرواية التاريخية أو الرواية الصوفية التى تدور حول تجربة التصوف، أو تدور حول قصة حياة أحد المتصوفين الكبار كـ«ابن عربى، جلال الدين الرومى أو شمس التبريزى» وننسبها فى الغالب للرواية التاريخية، وخلال أيام الملتقى أتيح لى الحديث والنقاش مع الكاتب المغربى الكبير، واختار خريج جامعة السوربون والباحث فى اللسانيات والتصوف والفكر الإسلامى ونائب مدير الإيسيسكو هذا النوع من الرواية، الذى يسميه بن عرفة: «أدب جديد ذو مرجعية قرآنية، يتكئ على مفهوم مختلف للأدب غاياته المعرفية إحداث تحول فى وجدان القارئ ومعرفته وسلوكه، وهى ليست رواية اجتماعية ولا تاريخية، لكنها نسيج وحدها يقوم على اللغة العرفانية، التراث العرفانى، للخيال الخلاق». وقدم بن عرفة للمكتبة العربية ثلاث عشرة رواية تؤسس لرؤية سردية بمرجعية قرآنية وأدب عرفانى يخاطب وجدان القارئ، بدأها عام ٢٠٠٢ برواية «جيل قاف» إلى آخر رواياته «مدينة الأختام الفاضلة» الصادرة العام الماضى، ويعمل لاستكمال مشروعه الذى سيتكون من أربع عشرة رواية، و١٤ فاتحة قرآنية و١٤ قرنًا منذ ظهور الإسلام، تشكل هندسة هذا المشروع السردى، حيث خصص بن عرفة لكل قرن فاتحة نورانية وشخصية محورية تحمل مكاسب ذلك القرن؛ حتى صار مثل موسوعة أدبية سردية عن هذا التاريخ العربى الإسلامى الطويل، تعتمد الروايات فى مفتتحها وسرها دلالات وأسرار الحروف المقطعة فى القرآن الكريم من «جبل قاف» إلى «ألمر.. أختام المدينة الفاضلة»، مرورًا بـ«بحر نون»، و«بلاد صاد»، و«طواسين الغزالى»، و«ابن الخطيب فى روضة طه»، و«ياسين فى قلب الخلافة»، و«الجنيد ألم المعرفة»، و«خناثة: ألر.. الرحمة»، و«إدريس: ألمص الولاية».

ويقصد بن عرفة بالعرفان اتحاد العارف بالمعروف، لأنه لمّا يحصل اتحاد العارف بموضوع معرفته أى معروفه، تصبح هناك محايثة تمكن من معرفة عميقة لما يريد أن يعرفه، ويصبح العارف جزءًا من مسار التعرف.

وقد وظف مجموعة من المفاهيم النقدية الجديدة المرتبطة بهذا المشروع، من بينها: الكتابة بالحال والكتابة بالسر والكتابة بالنور والكتابة بالأنفاس.

وأوضح بن عرفة: الحال وارد قلبى لكنه لا يدوم زمنين، بمعنى أن لحظة نشوئه هى لحظة انطفائه وموته، لهذا، الكتابة بالحال تفترض القراءة بالحال، والقارئ الذى يقرأ بالحال يعيد بناء الحال الأول فى لوح ذاته، من خلال خوضه تجربة روحية وفكرية ومعرفية وأدبية تمكنه من بناء خارطة الأحوال من جديد فى ذاته، فهذا الأدب هو أدب السفر، وهو أدب تفاعلى يستلزم أن يحضر القارئ فى العمل، وكلما كان حضوره قويًا كانت درجة تماهيه وفهمه كبيرة، فالقاعدة تقول «على قدر الحضور يكون الفهم، وعلى قدر الغياب يكون عدم الفهم». يكتب فى روايته «جبل قاف»: «كان محيى الدين أبوعبدالله محمد بن العربى الحاتمى الطائى المغربى يتكلم بصوت خافت كأنه منبعث من بئر شطون. وكانت الأصوات يقرع بعضها البعض فيسمع لها صدى ينقلها إلى الفضاء الرحب، إلى كل العوالم والخلائق. وكان هذا الصوت ثقيلًا على القلوب فيه رعشة ورهفة أوجمت النفوس والأنفاس، ولم يجرؤ أحد على النطق، فهذه ساعة يرتفع فيها الكلام وتنزل فيها الهيبة. ثم أوصاهم بتقوى الله.. ثم صرفهم كما لو أنهم لم يدخلوا. وبقى مع محيى الدين زوجته مريم فسألها أن تسنده إليها، فوضع رأسه بين سحرها ونحرها، وكانت المسكينة تبكى فى صمت فسقطت عَبرة ساخنة على شفتيه ألهبته للكلام فقال لها: كفى هذه الدموع الحارة يا مريم، فأنا فى لحظة الوداع التى هى عين اللقاء. لا تمسكينى فى هذه الدنيا فضرتها تغازلنى. لقد طفت وعمرت واحدًا وستين قافًا هى كتاب وجودى على جبل قاف. إننى البداية والنهاية، وأنا الأسى بين الحق والخلق. لقد صليت الصبح فى سفح الجبل، وقد أذن المؤذن لصلاة المغرب على القمة. وبين السفح وقمة الجبل مسيرة خمسمائة عام. إنها الصلاة الدائمة، الصلاة الوترية، صلاة الشاهد، دعينى أؤم الناس، ثم رأى كأنه قام يصلى وقد اصطف المصلون خلفه وفيهم من جميع الأمم ومن جميع الخلائق. ولما خرّ فى سجوده غاب عن حسه وغشيته أنوار الملكوت وخاض لُجة المعارف، وطفقت تراوده جميع المنازل حتى عرس بها، فلما استظهرها وأدرجت بين جنبيه فترت شفتاه بالشهادة ولسانه يردد: الله الله الله».

.. وللحديث بقية