رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ديستوبيا التكنولوجيا الحديثة «٣»

من الاستحواذ فى «بلاك ميرور» إلى فقدان السيطرة فى «اترك العالم خلفك».. تضافرت عوامل عديدة لنجاح فيلم «اترك العالم خلفك» على المستويين الفنى والجماهيرى، فقصة الفيلم معتمدة على عمل روائى يحمل العنوان نفسه للكاتب الأمريكى من أصل بنجلاديشى «رومان علم»، وقد تصدرت هذه الرواية قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، واختيرت فى العديد من قوائم أفضل كتب العالم، وجرى التعاقد على ترجمتها إلى ٢١ لغة حتى الآن.

ويقف خلف هذا الفيلم المخرج الأمريكى ذو الأصول المصرية سام إسماعيل، وهو مخرج ومنتج وكاتب سيناريو. ولد فى ١٩٧٧ فى مدينة «هوبوكن» بولاية نيوجيرسى، الولايات المتحدة. وفى أثناء دراسته فى جامعة نيويورك قام بدراسة الفنون الجميلة، وبعد التخرج التحق ببرنامج الإخراج فى معهد الفيلم الأمريكى وحصل على درجة الماجستير، وقد لمع اسمه كمخرج خلال العامين الماضيين بعدما حاز مسلسله «السيد روبوت» على جائزة جولدن جلوب لأفضل مسلسل تليفزيونى درامى، متفوقًا على المسلسل الأشهر «صراع العروش»، الذى كان ينافسه على الفوز بالجائزة.

برع سيناريو الفيلم فى تجسيم الأزمة وجعلها متصلة بالبشر، وليست مجرد تصور لنهاية العالم، فكل الشخصيات لديها ما يشغلها وما يخيفها وما تخفيه أو تدعيه، الابنة تشغلها مشاهدة الحلقة الأخيرة من مسلسل «الأصدقاء»، الأم «أماندا» تعترف بأنها تكره البشر وترتاب فى الغرباء، خاصة سود البشرة، ابنة مالك البيت تدعى أن المستأجر حاول اغتصابها، والابن يتلصص على ابنة مالك البيت، وصاحب البيوت قلق على زوجته المسافرة فى مهمة خارج الولايات المتحدة، ويبدو كأنه الشخص الوحيد الذى يعرف سر الكارثة.

ظهرت جوليا روبرتس وقد تعرضت لعوامل الزمن، فأصبح القلق والتوتر يغلبان على قسماتها ويمنحانها حدة وانقباضات لم نعتقدهما منها، لم تعد هى الأخرى نجمة، السيدة الجميلة بمرحها وابتسامتها المشرقة، فبعثت رؤيتها فى نفسى قلقًا وحزنًا دفينًا لما تفعله بنا الأيام، وجسدت لى مخاوف النهايات على المستوى الشخصى والإنسانى، وليس على مستوى الكون والحياة فحسب.

استخدم المخرج منظومته البصرية فى تقديم صورة مشوشة ومخيفة لعالم مضطرب وخارج عن السيطرة، ولهذا فلا تستغرب وجود الكادرات المقلوبة، وتطوير اللقطات من الأرض إلى تلك التى تصورها كاميرا محمولة على رافعة، ثم بواسطة الدرونز، وليقدم سلسلة بصرية بارعة استكملت ما نحن بحاجة إليه من إشباع بصرى، ومن ذلك مشاهد تجمع قطيع الغزلان من حول أماندا، والمشاهد فى داخل الكوخ ومشهد هروب كلاى وهلعه من اقتراب طائرة مسيَّرة تلقى المنشورات وتملأ الأفق بعاصفة حمراء لا أحد يعلم ما هى، حتى نكتشف أنها سحابة من المنشورات.

وقد كتب الناقد روبرت دانييلز مقالًا عن الفيلم فى موقع روجر إيبرت، قال فيه «يلفت النظر الاهتمام الكبير للمخرج بحركة الكاميرا الجامحة والمتأرجحة. ستختلف المسافة المقطوعة فى المشاهد الفيلمية، إذ فجأة يجرى التلاعب المذهل بالأفق المفتوح والمسافات، حيث يقوم هو والمصور السينمائى تود كامبل بتوظيف اللقطات العامة الطويلة ولقطات أخرى باستخدام الرافعة بشكل بارع ولافت للنظر، فضلًا عن تقلبات المنظور عند تصوير الكوارث المقلوبة، وهناك لقطات ينقلب فيها المنظور رأسًا على عقب: طائرات تائهة ومنشورات ورقية تتساقط من السماء، وجثث تجرفها الأمواج إلى الشاطئ، وأسلحة مباحة وسيارات تسلا ذاتية القيادة تتصادم فيما بينها».

تميز الفيلم بإيقاعه المتسارع واستمرت الحبكات الفرعية بقدرة كبيرة على الدفع بالأحداث للنهاية عبر تحولات أحداث جديدة.

وامتلأ الفيلم برموز عديدة أكسبته معانى وأبعادًا عميقة، فالاسم الأخير لجار جى إتش هو هكسلى، تكريمًا لألدوس هكسلى الذي كتب «عالم جديد وشجاع» وروايات أخرى رسمت تصورًا لمستقبل بائس، حيث أصبحت التكنولوجيا هى الشىء الذى يفسد البشرية ويستخدم كوسيلة لإيذاء الناس. 

إن الغزلان عبارة عن استعارة بصرية لـ«الارتباط بالعالم الطبيعى، وكيف نتعامل معه، وكيف يتحرك من حولنا، وكيف أننا لا نفكر فيه بعناية كما ينبغى»، كما يرمز الغزال إلى تجديد الحياة والولادة، فالغزلان تتخلص من قرونها كل عام، وتنمو مرة أخرى. فالغزال رمز قوى للقيامة وطول العمر. جاء ظهور منشورات باللغة العربية تلقيها طائرة مسيَّرة تحمل بيانًا عنوانه «الموت لأمريكا» ونكتشف أن المنشورات التى أُلقيت من الطائرة باللغة العربية أُلقى مثلها باللغات الكورية والروسية والصينية، وأن أمريكا لم تترك لها صديقًا قط.

إلى جانب هذه العوامل الفنية هناك قوة دفع تسويقية هائلة تحمل اسم باراك وميشيل أوباما، فقد أعرب الرئيس أوباما عن إعجابه بالرواية ووضعها فى قائمة قراءاته لعام ٢٠٢١، وعن طريق شركته للإنتاج الفنى قام أوباما بالمساهمة فى إنتاج الفيلم، وقد أوضح المخرج سام إسماعيل أنه استفاد من آراء وخبرة الرئيس أوباما فى تطوير أحداث الفيلم؛ حتى تكون قريبة من الواقع، وأرشده إلى تعميق بعض التفاصيل فى الفيلم، وقد وفرت شركة أوباما كل السبل لإنتاج فيلم بمستوى جيد، يعبر عن مخاوف الإنسان من فقدان السيطرة على التكنولوجيا الحديثة، وأن يقع ضحية لهذا التطور اللامحدود.