رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ديستوبيا التكنولوجيا الحديثة «2»

من الاستحواذ فى «بلاك ميرور» إلى فقدان السيطرة فى «اترك العالم خلفك»، قدم مسلسل «بلاك ميرور» رؤية كابوسية من سيطرة التكنولوجيا الحديثة على عقل الإنسان، ومن ثم التحكم فيما يراه بعينيه وحذف ما يثير مخاوفه أو يسبب له التوتر أو حجب الوجوه أو الشخوص الذين لا نرغب فى التواصل معهم، وتحويل عملية «بلوك» التى نقوم بها لأى حساب على «فيسبوك» لا نرغب فى التواصل معه إلى تظليل وإخفاء حقيقى لوجه هذا الشخص، فلا يقدر على التواصل معنا، وأيضًا التحكم فى الإنسان وعقابه الأبدى والمستمر بتعريضه لتجربة تعذيبه وقتله فى واقع افتراضى، فيعيش الخصم نفس التجربة بتفاصيلها من محاكمة ومطاردة وقصاص آلاف المرات بمجرد انتهاء الأحداث المصورة فى عقله وموته، يتم تشغيل التجربة مرة تالية بحقنه بمادة معينة، فيستمر فى عذابه الأبدى ولا ينتهى بمجرد موته، الذى يظن أنه حدث، لكنها مجرد ألعاب ذهنية ونفسية. 

ويصل التحكم التكنولوجى فى الإنسان إلى ذاكرته وذكرياته، فيتم اختراق الذاكرة الخاصة بالإنسان وتخزين محتوى ذاكرة كل شخص، وعرضها على جهاز، وبالتالى استعادة رؤية كل ما شاهده الشخص بعينيه، فلا خصوصية حتى لذكريات الإنسان، كله مشاع ومباح بقوة القانون المستقبلى، فلا أسرار خاصة، ولا ضمير يحكم ما تدلى به من أقوال فى واقعة معينة، كل شىء مسجل حتى خواطرك وما بينك وبين نفسك.

وتتصاعد وتيرة المخاوف مع قدرة الذكاء الاصطناعى على خلق نسخة شبيهة لنا، سواء على الشاشة بما يهدد مستقبل العاملين فى صناعتى الإعلام والترفيه، أو فى الحقيقة بما يهدد العلاقات الإنسانية الطبيعية.

وعلى الرغم من هذه الديستوبيا المرعبة، فإن خيال الإنسان لا يتوقف عند حد، فمن الخوف من السيطرة المطلقة والكاملة للتكنولوجيا على الإنسان، وهى سيطرة يمارسها مجموعة من البشر من خلال التكنولوجيا؛ لنصل إلى طرح تساؤل: ماذا إن فقدنا السيطرة على التكنولوجيا؟ ماذا إن فقدنا السيطرة على الملاحة الجوية والبحرية حتى السيارات ذاتية القيادة، وانقطع الإنترنت والاتصال بالهاتف، أو الإرسال التليفزيونى؟ فجأة تجد مجموعة من السكان «عائلتين» أنفسهم فى مواجهة انفلات كونى شامل، هذا هو محور أحداث فيلم «اترك العالم خلفك»، الفيلم الأحدث إنتاجًا على منصة نتفليكس، والمأخوذ عن رواية بالاسم نفسه صدرت عام ٢٠٢١ للكاتب رومان علم، ومن إخراج سام إسماعيل، وتمثيل جوليا روبرتس، ماهرشالا على، وإيثان هوك. 

يطرح هذا الفيلم فكرة نهاية العالم التى طالما تناولتها السينما العالمية، لكن الجديد أننا لا نرى على الشاشة حشودًا هائمة على وجوهها وقد تحولت إلى زومبى، أو حشودًا تجرى وتتصارع للحاق بسفينة أو مركبة، أو انهيار وتساقط أبراج وكبارى، شىء من هذا لا نراه عدا جنوح سفينة وسقوط طائرة على الشاطئ، والسبب ليس مؤامرة كونية أو مجموعة غامضة من الأشخاص الذين يديرون العالم لكنها الحقيقة الأكثر رعبًا، فلا أحد يتحكم، لا أحد يسحب الخيوط وتم فقد السيطرة على التكنولوجيا.

ينقسم فيلم «اترك العالم خلفك» إلى خمسة أقسام، كل منها مشار إليه على الشاشة بعنوان، الجزء الأول: البيت، الجزء الثانى: المنحنى، الجزء الثالث: الضجيج، الجزء الرابع: الطوفان، والجزء الخامس: النهاية.

تبدأ الأحداث مع قرار عائلة أمريكية مكونة من زوجين وطفليهما، بالخروج من ضوضاء المدينة التى يقطنون بها وقضاء إجازة فى مكان مستأجر بعيدًا عن العمران وقريبًا من الغابة، وأثناء استجمامهم على الشاطئ، يندهشون من جنوح سفينة كبيرة على الشاطئ، وعندما يعودون للبيت، يكتشفون انقطاع إرسال التليفزيون والإنترنت والهاتف، وعند منتصف الليل يفاجئهم صاحب البيت الأصلى وابنته بزيارة غير متوقعة، بسبب انقطاع الكهرباء فى المدينة، وتتوالى المفاجآت الغريبة والغامضة، ويرتفع التوتر وتزداد الشكوك مع عدم وجود وسيلة لمعرفة حقيقة ما يحدث، مع تصاعد دوى أصوات مزعجة يُشبه صوت صافرة إنذار دون توقف، وتبدأ الحيوانات بالغابة فى الخروج من مكامنها والهجرة بطرق غريبة، وتلدغ حشرة ابن العائلة وتبدأ أسنانه فى التساقط، ولا تستطيع العائلة العودة للمدينة بسبب انغلاق الطريق بمئات السيارات ذاتية القيادة التى تتدافع للاصطدام ببعضها البعض، ولا يصبح هناك تفسير واضح لما يحدث وفى هذه الفوضى، تتفجر المخاوف وتزداد الخلافات والشقاق، ويصبح المصير الضبابى المجهول هو محور الفصل الأخير المعنون بالنهاية.

.وللحديث بقية..