رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ديستوبيا التكنولوجيا الحديثة «1»

من الاستحواذ فى «بلاك ميرور» إلى فقدان السيطرة فى «اترك العالم خلفك..». 

منذ نزل الإنسان على الأرض وهناك دائمًا ما يخيفه، ما يتوجس منه.

فى العصور القديمة خاف الإنسان من الظلام، الأشباح، العفاريت والجان، الأمراض. 

ومع تقدم العلم وإماطة اللثام عن كثير من الأسرار، أصبح فى مقدور الإنسان فهم الطبيعة والبيئة من حوله، تحول هذا العلم نفسه إلى هاجس كبير.. فظهرت المخاوف من الأسلحة النووية، ومن حروب الجراثيم أو الحروب البيولوجية، التحكم والسيطرة فى البيئة بدأ الإنسان يتوجس. 

وكان الخيال الأدبى سباقًا فى صياغة وبلورة هذه المخاوف، بل والتحذير من المخاطر المقبلة، 

وسارت السينما بما تمتلكه من مؤثرات بصرية وسمعية على هذا الدرب.. فعبرت من خلال شاشتها، منذ الستينيات وبعد هبوط الإنسان على سطح القمر، وطوال فترة الحرب، عن مخاوف الإنسان من غزو الفضائيين الأرض، وقيام حروب نووية، وبعد انهيار سور برلين ومع الألفية الجديدة أصبح الإرهاب العالمى، بما يشكله من تفجير وخراب، واستخدام لأسلحة غير مصرح بها دوليًا، مع إمكانية انتشار الأوبئة المختبرية، التى يمكنها القضاء على الجنس البشرى، هو الخطر والهاجس البشرى الجديد، وكلما خطا العلماء خطوة فى تحقيق رفاهية الإنسان زادت مخاوف الإنسان، التى يعكسها الأدب والأفلام، فظهرت الأفلام التى نبهت لخطورة الروبوتس، واحتمال أن يحل الذكاء الصناعى محل الإنسان. فكل ما يحدث من تطور تكنولوجى له جوانب إيجابية وله أيضًا أضراره الكارثية. 

وفى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، ومع تزايد التقدم التكنولوجى، وزيادة اعتماد البشر على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى، ودخول التحكم الآلى فى أغلب المرافق الأساسية. مع التنظير لحروب الجيلين الرابع والخامس، واشتعال ثورات الخريف العربى، واتضاح التأثير الطاغى لوسائل التواصل الاجتماعى، ودورها فى تأليب وتفكيك الشعوب والثورة على أنظمة الحكم، وليست الثورة هى الخطر الذى يخشاه المفكرون والمنظرون، فعلى مدى التاريخ حدثت ثورات نجح بعضها وأخفق البعض الآخر، الثورة الأمريكية، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، لكن الثورات التى انبثقت مؤخرًا فى العديد من البلدان كانت ثورات دون عقول مدبرة تضرب بجذورها فى الواقع، ومن ثم فهى تعرف الممكن وغير الممكن فى الإصلاح والتعمير، لكن الثورات الإلكترونية ثورات تجريبية، دون زعامات ناضجة، محنكة، أقرب لحالة من الهيجان والفوران غير محسوب الأبعاد والعواقب، فظهرت التحذيرات السينمائية والتليفزيونية من خطورة هذه الكثافة التكنولوجية، وما يترتب عليها من قدرة خارقة على التأثير على الفرد والمجتمع، تصل إلى حد الإدمان وعدم القدرة على الابتعاد أو التقليل من استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة. 

فى ٤ ديسمبر ٢٠١١ «فى عز انشغالنا بتبعات الربيع العربى فى مصر» عرضت القناة الرابعة البريطانية مسلسل المرآة السوداء «Black Mirror»، هو مسلسل دراما وخيال علمى وديستوبيا، من تأليف السيناريست البريطانى تشارلى بروكر. والمقصود بالمرآة السوداء شاشة التليفزيون أو الموبايل أو اللاب.

وقد تكوَّن الجزء الأول من ثلاث حلقات منفصلة، فلكل حلقة شخوص وأحداث منفصلة عن بقية الحلقات، لكن جميعها يدور فى إطار من الدراما والإثارة حول الجانب المظلم من التكنولوجيا فى المستقبل القريب والبعيد، وتداعياته على قرارات ومصائر أبطال العمل. 

كانت الحلقة الأولى بعنوان: النشيد الوطنى: «The National Anthem»، وقد جسدت الأحداث نفوذ وسيطرة وسائل الإعلام وضغط الرأى العام، التى تجعل رئيس الوزراء البريطانى يمارس الجنس مع خنزير، ببث حى ومباشر على التليفزيون. 

الحلقة الثانية «Fifteen Million Merits»، عن مجتمع يركب الدراجات الثابتة المولدة للطاقة مقابل «مزايا»، وتم استخدام هذه المزايا للدخول فى برامج المسابقات والمواهب.

الحلقة الثالثة: «The Entire History of You»، فى المستقبل يزرع الناس «رقاقة إلكترونية» خلف آذانهم، تسمح لهم بتسجيل كل ما يرونه ويسمعونه. باستخدام جهاز تحكم عن بُعد، يمكن للمستخدم إجراء إعادة تشغيل ذاكرته مباشرة إلى عينيه أو إلى جهاز عرض. 

هذه الحلقات الثلاث بما قدمته من خوف، ما يمكن للتكنولوجيا أن تحدثه من تأثير مدمر لحياة الإنسان كانت بداية، تلاها تقديم أربعة أجزاء بمجموع ١٥ حلقة على مدار سنوات: ٢٠١٣، ٢٠١٤، ٢٠١٦، ٢٠١٧، ٢٠١٩.

وقد تحول تأثير البرنامج من النطاق البريطانى إلى النطاق العالمى، مع توالى إشادة النقاد بمستواه الفنى الرفيع، وحصوله على جائزة إيمى للدراما التليفزيونية ثلاث مرات متتالية، وفى عام ٢٠١٥، أصبح متاحًا للعرض عالميًا مع شراء منصة «نتفليكس» حقوق إنتاج المسلسل، من بداية الجزء الثالث. 

وعلى الرغم من أن «بلاك ميرور» جرعة مكثفة من الخوف والقلق من استحواذ التكنولوجيا الحديثة على عقل الإنسان، فإن الخيال الأدبى والسينمائى لا يقف عند حد، وكلما تقدمنا تكنولوجيًا زادت مخاوفنا، وعادة ما تتراوح المخاوف ما بين الاستحواذ وفقدان السيطرة. 

وللحديث بقية..