رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هرموبولس الجديدة.. العودة للجذور من أجل الحاضر والمستقبل «1-3»

فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الصادر عام ١٩٣٨، يقول عميد الأدب العربى طه حسين: «مصر الجديدة لن تُبتَكر ابتكارًا، ولن تُختَرع اختراعًا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة.. ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر فى مستقبل الثقافة فى مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب، لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا من صلة، وبمقدار ما نقيم حياتنا المستقبلية على حياتنا الماضية والحاضرة، نجنب أنفسنا كثيرًا من الأخطار التى تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام، والاسترسال مع الأحلام».

ويرى العميد أن الثقافة المصرية تتميز بخصال وصفات تنفرد بها عن غيرها من الثقافات، أولى هذه الصفات المميزة لثقافتنا المصرية أنها تقوم على وحدتنا الوطنية، وتتصل اتصالًا قويًا عميقًا بنفوسنا المصرية الحديثة، كما تتصل اتصالًا قويًا عميقًا بنفوسنا المصرية القديمة أيضًا، تتصل بوجودنا المصرى فى حاضره وماضيه، ومن حيث إنها تصور آمالنا ومُثلنا العليا فى الحياة، فهى تتصل بمستقبلنا، أيضًا، بل هى تدفعنا إلى هذا المستقبل دفعًا. 

ولم يكن إيمان طه حسين بالماضى المصرى القديم مجرد رأى يكتبه، لكنه كان يقينًا راسخًا جعله يسهم فى الكشف عن أسرار هذا الماضى، وتقديمه للمصريين والإنسانية جمعاء، فكان له الفضل فى الكشف عن العديد من الآثار المصرية فى منطقة «تونا الجبل»، حيث وافق أثناء توليه عمادة كلية الآداب، جامعة القاهرة، على تمويل الحفريات فى هذه المنطقة، وصرف مبلغ ٥٠٠ جنيه إلى العالم الأثرى «سامى جبرة» لبدء أعمال الحفر فى «تونا الجبل»، فى فبراير ١٩٣١، لتكشف البعثة عن العديد من المقابر الأثرية وأشهرها مقبرة: إيزادورا أو شهيدة الحب، كما سماها طه حسين، حيث تدفن فتاة يونانية، غرقت فى النيل أثناء محاولتها عبوره للقاء حبيبها.

ومع زيادة الاكتشافات يزور العميد المنطقة الأثرية، ويقيم فى استراحة خاصة به، وخلال فترات إقامته يكتب روايته الخالدة «دعاء الكروان».

وعلى خطى طه حسين، آمنت سيدة مصرية هى الدكتورة ميرفت عبدالناصر بقوة تأثير التاريخ المصرى القديم، ودوره فى دعم وشد أزر الثقافة المصرية فى حاضرها ومستقبلها، وأن التاريخ المصرى القديم، وبخاصة الفلسفة المصرية، هى القادرة على ربط الحاضر الواهن بالماضى العظيم، وأن تحقيق النهضة الحديثة لن يكون سوى بالعودة للفكر المصرى القديم. 

ومن أجل هذا، تركت عملها الأصلى فى مجال الطب النفسى، فهى حاصلة على زمالة الكلية الملكية للأطباء النفسانيين، والدكتوراه فى الطب النفسى من جامعة لندن، وشغلت منصب استشارى وأستاذ الطب النفسى، جامعة كينجز كوليدج، لندن، حتى تقاعدها الاختيارى فى ٢٠٠٧ من أجل التفرع التام لتحقيق حلمها فى إحياء التاريخ المصرى، وألا يكون مجرد أعمدة أو حجارة أو مزارات للسياح، ولكن أن يتحول إلى فكر وسلوك يمارسه أبناء هذه الحضارة العظيمة، وقامت بتأسيس مبادرة «هرموبولس الجديدة».

اختارت الدكتورة ميرفت عبدالناصر، محافظة المنيا، مقرًا لمبادرتها الفريدة، وبالتحديد منطقة هرموبولس، أو مدينة «تحوت»، رب الكتابة والحكمة، الذى علّم البشرية المعرفة والفنون عند المصريين القدماء، والذى اكتسبت اسم هرموبولس فى العصر المصرى- اليونانى نسبة لهرمس- المرادف الإغريقى لتحوت. وكانت هذه المدينة مركزًا مهمًا لصناعة الفكر والفلسفة فى مصر، وخرجت منها أفكار ورؤى أثرت فى تطور الفكرى الإنسانى عبر العصور.

وما زالت آثار هذه المدينة موجودة فى منطقتى الأشمونين «هرموبولس الشرقية»، التى تحتضن أطلال «معبد تحوت» الشهير، ومنطقة تونا الجبل «هرموبولس الغربية»، وهى الجبانة التى دفن فيها علماء الأشمونين، وأهمها مقبرة «بيتوزيرس» «بادى أوزير» الذى كان يشغل منصب الكاهن الأكبر فى فترة الإسكندر الأكبر.

تأتى هرموبولس الجديدة كمبادرة مجتمعية تستلهم فكر وفلسفة هرموبولس القديمة، التى تؤمن بإمكانية التعايش وتحقيق التناغم بين أفراد المجتمع الواحد، بغض النظر عن اختلافاتهم وأيضًا إمكانية تغيير العالم من خلال تطويع قدرات الفرد الإبداعية.

ومن أجل نشر فكر وفلسفة تحوت أو هرموبولس، أطلقت الدكتورة ميرفت عبدالناصر فى عام ٢٠١٥ «مهرجان تحوت»، وهو مهرجان أدبى يُعقد سنويًا فى هرموبولس الجديدة، إحياء لمهرجان مصرى قديم كان يقام من أجل الاحتفال بقوة «الكلمة الإبداعية».

وعلى مدى تسع دورات، قدم المهرجان فى كل دورة ما يدعم ويقوى التراث الحضارى المصرى، ويربط الحاضر بالماضى، من خلال مناقشة قضايا وموضوعات حيوية تربط الماضى بالحاضر مثل: حواديت الطين والبردى، تراث مصر والحكمة، الأرض والحياة- تراث مصر الطبيعى، بصمة، راوى الحقيقة- الاحتفال بمئوية اكتشاف مقبرة بيتوزيرس، الاستشفاء بالكلمة، البحث عن ماعت، حنين إلى الهارمونية.

وقد اختارت الدكتور ميرفت عبدالناصر يوم ٢٨ من شهر أكتوبر موعدًا سنويًا لعقد المهرجان، حيث يوافق ذلك ذكرى وفاة عميد الأدب العربى طه حسين، وجاءت دورة هذا العام تحت عنوان: الأيام من بيتوزيرس إلى طه حسين، تكريمًا للعميد فى ذكراه الخمسين. وكان لى مع نخبة من المثقفين المصريين شرف المشاركة فى هذا المهرجان والإقامة فى هرموبولس الجديدة، وتنسم عطر الأجداد على مدى يومين.

.. وللحديث بقية