رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جذور التوافق الوجدانى بين الأمريكان والصهاينة «1-2»

شاهدنا على مدى عقود الدعم الأمريكى الكامل لدولة إسرائيل، فقد كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل كدولة مستقلة فى ١٤ مايو ١٩٤٨ عندما أصدر الرئيس هارى ترومان بيان الاعتراف بعد دقائق من إعلان قيام دولة إسرائيل، وتم تأسيس العلاقات الدبلوماسية عندما قدم السفير الأمريكى جيمس غروفر ماكدونالد، أوراق اعتماده فى ٢٨ مارس ١٩٤٩. 

وخلال هذه السنوات قدمت الولايات المتحدة دعمًا ماليًا وعسكريًا وتقنيًا لإسرائيل يزيد على ١٢٢ مليار دولار، ومن أجل مصلحة الكيان الصهيونى استخدمت أمريكا حق الفيتو ٤٤ مرة لتمنع أى إدانة دولية لسياساتها العدوانية والوحشية.

ومع الأحداث الأخيرة بعد السابع من أكتوبر وجدنا ما يزيد ويفيض، فالرئيس الأمريكى ووزير دفاعه وخارجيته هرعوا إلى إسرائيل للدعم والمساندة، وإعلان التأييد الكامل والمطلق فى حق الكيان الصهيونى فى الدفاع عن نفسها بكل السبل، متجاهلين التاريخ الطويل من احتلال إسرائيل أراضى عربية وتوسعها الدائم والمجازر التى ارتكبتها فى حق الفلسطينيين، وكأن أمريكا لا ترى أو تسمع سوى إسرائيل، فما هو السر فى هذا الانصياع الأمريكى الكامل لإسرائيل؟ ولماذا لا تتغير السياسات الأمريكية الإسرائيلية رغم تغير الرؤساء والحكومات؟ 

المدقق فى هذه الحقيقة يجد أن المسألة لا تتعلق بالمصالح الاستراتيجية لأمريكا فى المنطقة فحسب، ففى مراكز الأبحاث الأمريكية دراسات تقول إن إسرائيل صارت عبئًا استراتيجيًا على أمريكا وإن ما تعرضت له من عمليات إرهابية سببه المباشر الدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل، فلماذا هذا الانحياز الذى يبدو قدريًا وسرمديًا؟

يوضح لنا المفكر والكاتب عبدالوهاب المسيرى فى كتابه «الفردوس الأرضى»، فى الفصل الأول: «البراجماتية الأمريكية والبراجماتية التلمودية»، أن الدارس للوجدانين الأمريكى والصهيونى يلاحظ وجود تشابه وتطابق بينهما على الرغم مـن أن الحضارة الأمريكية لا يزيد عمرها على بضعة قرون، بينما تتباهى الحضارة اليهودية الإسرائيلية بتاريخ قديم قِدم الإنسان. 

ويرى أن أهم صفات التشابه بين الوجدانين هى: 

- رفض التاريخ بعناد وإصرار.

- الحلم بتأسيس الفردوس الأرضى.

- عقلية الريادة. 

- العنف العنصرى.

- الاستيطان. 

فالوجدان الأمريكى يرفض التاريخ بعناد وإصرار، أو على الأقـل يحوله إلى أسطورة متناهية فى البساطة. فقد بدأ التاريخ الأمريكى حينما استقل البيوريتانيون أو المتطهرون سفنهم وهـاجروا من أوروبا إلى العالم الجديد أو أرض الميعاد هربًا مـن المشاكل التـى أثارهـا «التـاريخ الأوروبى» بما فيها سيطرة الكنيسة الكاثوليكية، بما فيها من طقوس وزخارف وحتى البروتستانت وجدوا أن كنيستهم فى أوروبا لم تلتزم بالبساطة الأولية للتعاليم المسيحية. وكذلك الصـهاينة يـرون أن الوجـود اليهودى فى أى حضارة غير يهودية ظاهرة شاذة وعلامة على المرض الروحى، ولذلك هم يريدون العودة لزمن «البساطة الأولى» أيام كان اليهود يعيشون ككيان قومى مستقل فريد لم تدخل عليه الشوائب التاريخيـة غيـر اليهودية المختلفة.

- لا يختلف فهم البيوريتانيين «المتطهرين» الذين أسسوا أمريكا لمدينتهم الفاضلة كثيرًا عن فهم الصهاينة لإسرائيل، فهم كانوا مقتنعـين تمـام الاقتناع أنهم هاجروا من أوروبا للعالم الجديد ليُنشئوا «مدينة على التل» تنظر إليها كل الأمم وتحاكى أفعالها، وبـذلك يعم الخير ويأتى الخلاص. والصهاينة يرون أن التاريخ اليهودى يؤدى إلى النهاية الإسرائيلية السعيدة، وفى الفـردوس اليهودى الجديد يحمل كل المواطنين أسماء عبرية لها رنين خاص.

- كما يوجد حلم لليهود من الفرات إلى النيل يوجد فى الأدبيات الأمريكية الحلم بأمريكا العظمى التى تمتد من كندا إلى كوبا ومن القطب إلى خط الاستواء، من أجل هذا كان بعض الجنرالات الأمريكيين يطلقون على الجنود الأمريكيين فى فيتنام «جنود المسيح». إن الجنرال الأمريكى مثل الجنـرال الإسـرائيلى عنده إحساس بأنه صاحب رسالة خاصة أنه قد «اختير» لتنفيذها، ولذلك فهو يقوم بالتخريب والتـدمير والفـتح والغزو والنهب فى منتهى البراءة ودون أن يهتز له جفن.

- تسيطر عقلية الريادة على كل من الصهاينة والأمريكيين، فالبيوريتانيون اكتشفوا أمريكا ثم انتشـروا فيها عن طريق إنشاء مستعمرات ذات طابع زراعى عسكرى. والمستوطنون الصهاينة هم الآخرون اكتشفوا «فلسطين» واحتلوها بنفس الطريقة، وعقلية الرائد عقلية عملية تفضل الفعل على الفكر، والنتائج العمليـة علـى الاعتبارات الخلقية.

- يتسم كلا الوجدانين بتبنى العنـف العنصـرى، فرفض التاريخ نتج عنه تعامٍ عن الواقع وتجاهل لكل تفاصيله، ولذلك وقـع البيوريتـانيون والصـهاينة فـى تناقضات رؤيتهم بعالم جديد برىء بسيط لا يمكن أن يشيد إلا عن طريق العنف والإبادة «إبادة الهنود الحمر والفلسطينيين»، الفردوس والجحيم فى آن واحد.

- من نقاط التشابه الرئيسية بين المجتمعين الإسرائيلى والأمريكى أن كليهما مجتمع استيطانى يتكـون مـن المهاجرين الذين عليهم أن يطرحوا على أنفسهم هويتهم القديمة ليكتسبوا هوية قومية جديدة بمجرد وصولهم إلى نيويورك أو حيفا. من أجل هذا استحدثت أمريكـا أسطورة «آدم الجديد الديمقراطى» الذى يأتى إلى الأرض أو الجنة العذراء ليقيم فيها ويستلهم كل ما فى التراث العالمى من إيجابيات وينفتح على كل الحضارات. والصهاينة فبركوا أسـطورة «اليهـودى الخـالص» المتفتح على الحضارة اليهودية الخالصة، والذى يهاجر إلى أرض الميعاد اليهودية ليحارب فـى جـيش يهـودى ويزرع فى حقل يهودى ويقرأ فى كتاب يهودى، ويحب ويقتل على الطريقة اليهودية.

فالدعم الأمريكى لإسرائيل ليس أمرًا عارضًا لكنه جزء من الوجدان والتكوين الأمريكى ولكن هل يدعونا هذا لليأس والقنوط؟ لا.. فعلينا معرفة الحقيقة كى نجيد التعامل معها، وخلخلة هذه الثوابت تحتاج إلى وعى وبصيرة علينا امتلاكهما. 

وللحديث بقية..