رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيينا.. عندما يتفوق الواقع على الخيال «7-8»

كان مقررًا أن تشمل زيارتى لأوروبا هذا الصيف ثلاث مدن: فيينا، براغ، بوخارست.

بدأت بزيارة فيينا وأمضيت ثلاثة أيام، وفى اليوم الرابع كان علينا التحرك صباحًا بالأتوبيس فى اتجاه «براغ»، خلال الأيام القليلة التى أقمتها فى فيينا تأكد لدىّ أن هذه المدينة العريقة تحتاج منى لزيارة مقبلة لا تقل عن أسبوع.

فى ليلة مغادرة فيينا، اعتذرت عن لقاء الصديق وصفى هنرى والصديقة الكاتبة اللبنانية «سونيا بوماد»، التى سبق أن قرأت روايتها «كايا» ونشرت مقطعًا منها فى صفحة مرايا الإبداع دون أن نلتقى. كان موعد اللقاء السابعة مساء، لكنى عدت للفندق مُجهدة من جولتنا الأخيرة فى فيينا، والتى أضفت لها زيارتى الخاصة لمتحف بلفيدير، فكنت أحتاج للراحة، وإعادة ترتيب الحقيبة للمغادرة فى الصباح. 

قضيت الليلة فى مشاهدة التليفزيون، وقد انتبهت أنه رغم تعدد قنواته، لكنك لا تسمع فيه سوى اللغة الألمانية مهما كان المحتوى، برامج إخبارية أو وثائقية، مسلسلات، أفلام أمريكية.. إلخ، كل الأصوات تتم دبلجتها للغة الألمانية، لا توجد ترجمة مكتوبة، تابعت برنامجًا وثائقيًا عن مسيرة محمد على كلاى، وأكثر من فيلم أمريكى سبق لى مشاهدته، لكن الألمانية هى المسيطرة على الفضاء السمعى، وقد ضايقنى الأمر لكنى كنت قادرة على المتابعة بصريًا. 

أخبرنى زوجى «محمد» عبر الـ«واتس» من القاهرة، أنه سيسافر فى الصباح إلى بلدته فى محافظة دمياط لأن حالة والده الصحية غير مستقرة.. لم أتوتر فقد توقعت أن يعبر الرجل، الذى أعتبره والدى الثانى، هذه الأزمة كما عوّدنا بأريحيته الآسرة، وأننى فى الغد عندما يعطيه زوجى الهاتف كى أسمع صوته وأطمئن عليه، سيقول لى: أنا مش عارف إيه اللى جابه؟! أنا صحتى زى البمب، قول لى، أنت مش عايزة حاجة أبعتهالك؟ 

كانت هذه طريقته فى إنكار أى شىء سيئ فى الحياة، فيما يخص صحته أو مشاكل أبنائه أو أحفاده، استهانته بالمشاكل والأزمات وعدم اكتراثه بالتفاصيل، لطفه وخفة روحه اللذان عايشتهما على مدى خمسة وعشرين عامًا جعلا ملامحه تتشكل فى ذهنى كرحالة، عابر سبيل.

تغافلت أن كل عابر للسبيل له فى النهاية مستقر، ونبهتنى فى الصباح رسالة من رفيقى أن الله قد استرد وديعته، وأنه وابنتى «مريم» فى طريقهما للبلدة.

كانت التاسعة صباحًا عندما قرأت الرسالة، وقد تبقى نصف ساعة على المغادرة لبراغ. حقيبتى مغلقة، مستعدة لمغادرة الفندق، جلست على حافة السرير، وأرسلت لـ«محمد»: لن أغادر فيينا مع المجموعة، سأبقى حتى أجد طائرة وأعود للقاهرة.

نزلت لمطعم الفندق، أخبرت مسيو «جاك» مسئول الرحلة، فأبدى هو وبقية الأصدقاء تعازيهم وتعاطفهم، وبدأوا يبحثون لى عبر الإنترنت عن رحلة للقاهرة، أرسلوا لى مواقع وصفحات كثيرة من شركات الطيران، كانت رحلة مصر للطيران التى تغادر فيينا فى الثالثة والنصف ظهرًا قد أغلقت على الموقع، ومعظم الرحلات المتاحة غير مباشرة وبها ترانزيت يصل لتسع ساعات. كنت وما زلت ممتنة لمحاولاتهم ودعمهم لى رغم ضيق الوقت وضرورة تحركهم إلى براغ.

غادرت المجموعة وبقيت فى الفندق، تواصلت مع الزملاء فى «الدستور» ليتواصلوا مع شركة مصر للطيران فى القاهرة، وإذا كان هناك مقعد شاغر فى طائرة اليوم فإنى جاهزة للتحرك للمطار فورًا. ظللت فى اتصالات مكوكية مع الزميلين «سامح» و«فاتن».. حتى الثانية عشرة ظهرًا، علمت بوجود مكان شاغر وإمكانية الحجز والسفر، وأنهم سيرسلون لى التذكرة على الـ«واتس»، فغادرت الفندق وأخذت تاكسى لمطار فيينا، وتعرضت لعملية استغلال صغيرة، فتعريفة التاكسى من الفندق للمطار ٣٨ يورو، لكن السائق طلب منى ٥٥ يورو، ولم يجد معه تكملة الفكة فأخذ ٦٠ يورو. 

دخلت مطار فيينا مسرعة مضطربة، لن أكتب لكم عن الحزن، بعد أن أستقر فى مقعد سأعطيه حقه، بمجرد رؤيتى علامة حورس على مكاتب مصر للطيران شعرت ببعض الأمان، وقفت فى الطابور، لم تصلنى التذكرة، فاتن ترسل لى «حالًا يا دكتورة»، انتهى الطابور وجدت نفسى أمام الموظفة، شرحت لها الوضع، طلبت أن أتوجه لمكتب مصر للطيران فى المطار، تعاطف معى مدير المكتب واعتذر لى أنه لا يستطيع الحجز، لأن السيستم مغلق عنده، وأجرى عدة اتصالات، فعرف أنه يمكن الحجز من المركز الرئيسى فى القاهرة، طلب منى انتظار التذكرة من القاهرة، فى هذه الأثناء كان زميلى بالدستور «أحمد عفروتو» يتوجه لمكتب مصر للطيران فى وسط البلد، لكن تذكرتى كانت محجوزة من فرع هليوبوليس، وعليه التوجه لمصر الجديدة لإتمام الحجز. فى انتظار التذكرة ظلت عيناى معلقتين على الساعة حتى الثالثة، حتى رأيت مدير الفرع بالمطار يتوجه لبوابة الرحلة، أشحت بنظرى عن الساعة، لكنى أيضًا لم أتحرك، ظللت فى مقعدى حتى غادرت الطائرة فى الثالثة والنصف.

وها أنا أجلس على مقعد فى مطار فيينا، الذى بدا واسعًا جدًا وخاليًا جدًا جدًا، ولدىّ متسع من الوقت كى أحزن على مهل، وأتذكر الراحل الحبيب، وأدرك أن بيننا قاسمًا مشتركًا هو الترحال وضرورة التأقلم على وضع جديد، هو فى أبديته السرمدية ومستقره الجديد، وأنا فى حيرتى: متى وكيف سأعود للقاهرة، والأهم أين سأبيت هذه الليلة؟

وللحديث بقية..