رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيينا.. عندما يتفوق الواقع على الخيال «4-8»

فى اليوم الأول لوصولى فيينا، اعتزمت زيارة متحف سيجموند فرويد. كنت قد وصلت للفندق مع مجموعة من الأصدقاء الذين تكونت صداقتنا وتطورت خلال الرحلة ضمن فوج سياحى نظمته إحدى شركات السياحة المحترمة فى مصر، والذى نجح صاحبها مسيو جاك فى تيسير كل خطواتنا خلال إقامتنا فى فيينا. وقد كان من المقرر وفقًا للبرنامج أن نقوم بجولة حرة فى أحد أهم شوارع فيينا التجارية، لكننى فضلت لقاء صديقى وصفى هنرى الذى لم تسمح لنا الظروف باللقاء فى القاهرة، رغم تواصلنا على فيسبوك. 

التقينا فى السادسة والنصف، ولم يكن أمامنا غير ساعة ونصف الساعة تقريبًا للوصول وأخذ جولة بالمتحف، أخذنا تاكسى وتوجهنا للمتحف، بينما الأمطار تنهمر على زجاج السيارة، وفى الطريق.

أخبرنى صديقى بأنه لم يسبق له أن زار متحف سيجموند فرويد، على الرغم من أنه يسكن منذ ٤٤ عامًا على بُعد ٣ محطات ترام من بيت أعظم وأشهر عالم نفس أنجبته البشرية. 

وصلنا لبيت فرويد فى نحو عشر دقائق، فى طرقات لم تحمل لى مفاجأة، فالهدوء والنظافة سمتا كل المدن الأوروبية التى سبق لى زيارتها، لكن يبدو أن فيينا تصر على اندهاشى، وأن تغرس لها مكانة خاصة فى روحى، بدأت بالإحساس المطلق بالثقة فى الآخرين وعدم الحاجة لإثبات الصدق، وها هى تغرس نبتة أخرى فى روحى، ماهيتها احترام وتقدير دور الإعلاميين وتسهيل مهمتهم، وتيسير سبل المعرفة لديهم، وذلك أيضًا بثقة تامة ودون حاجة لإثبات حسن النوايا، فعند شباك التذاكر أخبرتنا الموظفة بأن سعر تذكرة الدخول ١٤ يورو للفرد، فأظهر لها هنرى كارنيه الصحافة الخاص به، وسألها إذا كان سيحصل على تخفيض، فأجابته بأنه معفى تمامًا من رسم الدخول، فقلت لها: أنا أيضًا صحفية ومقدمة برامج فى مصر، لم أكن أحمل أى كارنيه، فقط عرضت عليها صورة برومو برنامجى أطياف على قناة الحياة، فرحبت بى، ببساطة ودون تمحيص أو تشكيك، أو طلب موقع من اثنين موظفين وعليه ختم النسر، وأعطتنا تذكرتى دخول لشخصين قيمتهما صفر يورو.

هذا الامتياز بالنسبة للإعلاميين لم أكن أعرف بوجوده، رغم زيارتى السنوية لأوروبا منذ ٢٠١٥، ولا أدرى إن كان معمولًا به أم لا فى بقية المدن الأوروبية التى سبق لى زيارة متاحفها الكبرى.. باريس وروما وأثينا وأمستردام ولاهاى وجنيف، لكن الأكيد أنه مطبق فى كل المتاحف النمساوية، وقد استخدمته عند زيارتى متحف بالفيدير، الذى سأكتب عن جولتى به الأسبوع المقبل. وقد تكون هذه التفاصيل الصغيرة، واستكشاف العالم الجديد بروية وفى وجود دعم معنوى، ما يجعل المرء يحرص على التواصل مع أصدقاء له، يقيمون فى الخارج عند زيارة مدن جديدة وغريبة عليه، إنه الإحساس بالونس والاطمئنان لمعرفة الصديق المقيم، بما تجهله بحكم اغترابك المؤقت، فليست القيمة فى توفير ١٤ يورو، خاصة أننى اعتدت السفر ضمن فوج سياحى تنظمه شركة سياحة مصرية، وتكون كل تكاليف الرحلة من طيران وإقامة وانتقالات وتذاكر للمزارات الشهيرة مدفوعة مسبقًا قبل السفر.

كما أننى دائمًا ما كنت أحاول الاستفادة من كل دقيقة فى الخارج بزيارة أماكن قد لا يهتم بزيارتها محبو السفر، فأذهب لزيارة هذه المتاحف فى أوقات ما يسميه برنامج الرحلة جولة حرة.

فى لهفة وعجلة، بدأت جولتى فى متحف سيجموند فرويد، وهو متحف بسيط لكنه عميق المغزى والمعنى، فطريقة العرض فى شقة فرويد المكونة من خمس غرف تحرص على توضيح وظيفة كل غرفة، واستخدام أفراد الأسرة لها أثناء إقامة فرويد بالبيت، تحتوى كل غرفة على فاترينة زجاجية أو أكثر لعرض أصول أعمال فرويد، ونسخ من كتبه فى طبعاتها الأولى، كما تحوى مخطوطات بيده تقارير طبية، وكتبًا ومقالات ورسومات توضيحية، كما هو الحال مع رسومه لشخصية النبى موسى، عليه السلام، التى ترتبط بتحليل شخصية النبى موسى، ومناقشة أفكار التوحيد وتوضيح رؤية فرويد من الأديان، خاصة الديانة اليهودية التى هى ديانته بالمولد. كما تحوى الفتارين بعض متعلقاته الشخصية مثل النظارة، العصا، الحقيبة الجلدية المحفور عليها الحرفان الأولان من اسمه s وf.

كما شاهدنا مجمع الألعاب الشهير الذى يجمع الشطرنج والدومينو والطاولة والكوتشينة فى علبة واحدة.

لا يحتوى المتحف من الأثاث، الذى كان يعيش عليه فرويد، سوى غرفة استقبال، عبارة عن كنبة وبعض الكراسى، ومكتب ومجموعة من الصور المعلقة على الجدران، وقد تمت استعارة هذه القطع من متحف فرويد فى لندن، حيث عاش آخر عام فى حياته، وقد حرصت إدارة المعرض بهذا التقشف وعدم عرض آثار فرويد على تأكيد فكرة هروب فرويد بأسرته من فيينا بعد سيطرة النازى عليها.

إذا كان فرويد قد توصل إلى سبر أغوار النفس البشرية من خلال التحليل النفسى، وتفهم الدوافع والرغبات ودور الأنا والأنا العليا فى تشكيل سلوك الإنسان، فإن فرويد كان ولا شك سيقف كثيرًا أمام ولع صديقى وصفى هنرى بالتصوير، فهو دائمًا يلتقط الصور للأشخاص والأشياء المحيطة به، يفعل ذلك بمحبة دون تلصص، ولعل اغتراب وصفى عن موطنه الأصلى مصر، ما يجعله يحرص على الصور كتثبيت لكادر يمحوه الزمن سريعًا، يخشى وصفى فى أعماقه الزمن، ورغم مرحه الظاهر وحيويته المدهشة، فإن هاجس تفلت اللحظات وسريان الزمن المستمر، هو ما يجعله يرغب دائمًا فى تأطير هذه اللحظات وتجميدها بثبيت وتوقيف زمانها بالصورة.