رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عميان بافيا السبعمئة

بسنت فؤاد
بسنت فؤاد

- ارحلى الآن وإلا فلن أتمكن من فعل أى شىء من أجلك!

- إيدوا، إنى أطلب منك..

انحشرت العبارة فى حلق داميان، عندما، فجأة، أمسكتها إيدوا من ذراعها وسحبتها داخل الكوخ. دفعتها خلف الحاجز وهى تشير بسبابتها لها أن تصمت! نادى صوت امرأة على الممرضة من السكان الأصليين فى الخارج، فأجابت وغادرت. تجاذبت المرأتان الحديث بلغة بافيا، بهدوء، فى المكان الذى كانت تقف فيه داميان فى اللحظة السابقة. داخل الكوخ، استندت داميان إلى جدار طينى. لقد أنقذت إيدوا حياتها للتو! كانت الأسئلة تتسارع فى رأسها، لكن شعورها بعدم الأمان كان هو الذى ساد. حاولت جمع أفكارها وبدأت بملاحظة ما يحيط بها. بارتفاع رجل، كانت هناك عصا موضوعة بشكل أفقى بين جدارين، تم تعليق الملابس عليها؛ فى الأسفل، سرير من الخيزران، وسادة كبيرة من العشب الجاف مغطاة جزئيًا بالمآزر؛ السرير غير مُلتصق بالجدار الخلفى، وكانت عليه حزمة من الغسيل؛ تم إغلاق النافذة الوحيدة الموجودة بالكوخ؛ على الأرض، وعاء كسكسى فارغ تقريبًا؛ وعلى اليسار، حقيبة طبية. تحرك الحاجز، وحبست داميان أنفاسها. كانت إيدوا، وحدها.

- لا يمكنك البقاء هنا، همست لها الممرضة بذلك. ستعود السيدة قريبًا لتدلكنى بالماء الساخن، وستدخل الكوخ. يجب أن تعودى وسط الآخرين. سأذهب لأرى هل الطريق خالٍ أم لا؟ لا تتحركى، سأعود.

- ولكن أنا..

- صه! 

خرجت إيدوا من الكوخ وسحبت الحاجز وراءها. لقد تصرفت بطريقة غريبة، مما جعل داميان تفقد رباطة جأشها. إنها لم تفهم أى شىء. خلال اليومين الماضيين، حاولت عدة مرات تخيل هذه المرأة الإفريقية التى تعلمت القراءة والكتابة ثم أصبحت ممرضة. لقد رسمت فى رأسها مائة صورة شخصية لهذه الممرضة من السكان الأصليين. لكن المرأة الشابة التى رأتها للتو لم تبد مثل أى كليشيهات. شعرت داميان بالغضب لأنها فى دقيقة واحدة من المواجهة علمت أنها قد لا تكون لها اليد العليا. وصل إليها بكاء النساء فى الكوخ المجاور وثرثرة أولئك الذين يساعدونهن، وهى تمتزج مع أصوات الطبول. يبدو أن شيئًا ما يتحرك على السرير، لكن داميان لم يكن لديها وقت للانشغال بشأنه، لأن الحاجز انفتح ودخلت إيدوا.

- الطريق خالٍ، أسرعى.

- لكن علىَّ التحدث معك!

- ليس الآن! خذى اتجاه اليسار.

- إيدوا، إيدوا، اسمعينى! ما سأخبرك به مهم، بل حيوى أيضًا.

- ليس هنا. خلف هذه الأكواخ، يوجد طريق يؤدى إلى بركة ماء راكدة. سأكون هناك خلال عشرين إلى ثلاثين دقيقة. إذا كنت ترغبين بالتحدث معى، انضمى إلىّ. لكن لا تدعى أحدًا يراك.. ادخلى الكوخ الكبير، واتبعى الممر وابقى مع كورنارى وبوجيت، اللذين هما وحدهما الآن فى غرفة المعيشة. بسرعة.

كانت إيدوا قد سحبت الحاجز بالفعل. بمفردها، فى الخارج، أُجبرت داميان على الفرار من المكان الذى وصلت إليه، وبعد عدة تعرجات فى أروقة مقر الزعامة، عادت إلى غرفة المعيشة، حيث كان المسئول الإدارى ورئيس الدرك فى منتصف مناقشة.

قبل أن يطرحا أى سؤال، أوضحت لهما داميان أنها كان يجب أن تركض لتلبية حاجة ملحة عند سفح مجموعة من أشجار الموز خلف الأكواخ. لم تستطع إخبارهما بالحقيقة كاملة أو قضاء المزيد من الوقت فى التودد إليهما؛ كانت تعلم أنها بحاجة إليهما، خاصة كورنارى. والآن بعد أن نجحت فى اكتشاف مكان إيدوا وتعرفت عليها، كان عليها أن تعيدها إلى خالها، الزعيم العظيم أتانجانا، حتى لا يبدأ حملة عقابية ضد بافيا، وذلك قبل انتهاء المهلة المحددة للدكتور جاموت التى ستنتهى خلال يومين.

ومع ذلك، فإن قضاء أقل من يومين فى المشى من بافيا إلى ياوندى بدا وكأنه معجزة، حتى لو افترضنا أنه لن تكون هناك مشكلة فى عبور العديد من القرى المليئة بالعميان والمتمردين. وللحفاظ على فرصة للنجاح، كان من الضرورى السير على الطريق قبل شروق شمس اليوم التالى، وهو أمر لم يكن سهلًا مع موقف إيدوا المربك، على أقل تقدير. 

كانت داميان على استعداد لمساعدة الدكتور جاموت، لكنها لم تعد قادرة على الاستمرار فى تقليص المشكلة الأمنية فى منطقة بافيا إلى مجرد مشكلة أن تعود ممرضة شابة إلى موطنها، حتى لو كانت أميرة. كان هناك كل هؤلاء، البيض والسود، الذين تركتهم محاصرين فى مقر إقامة المسئول كورنارى، الذين تناولت معهم الذرة والكسافا، الذين ارتعدت برفقتهم تحت أغانى وصيحات حفنة من المتمردين الذين كانوا يرقصون بنشوة وتفوح منهم رائحة العرق. لم تستطع تجاهل تلك الوجوه التى عرفتها الآن. كان معظم هؤلاء الرجال من أبناء وطنها أو زملائها، وكان لكل منهم قصته وهواجسه الخاصة. كان من ضمن القواسم المشتركة بينهم اتخاذ الخيارات أو الخضوع إلى الحالات الطارئة مثلها. وإفريقيا، حيث هبطوا طواعية إلى حد ما، كانت فرصتهم الأخيرة لخلاص الجميع. وفى عيون العديد منهم انطفأ اللهب الذى يشعل التعطش للانتقام والرغبة فى العودة منتصرين فى حروبهم. لم يكن لإخلاء إيدوا، سواء كان ناجحًا أو مجهضًا، عواقب على هؤلاء الناس. لقد كانوا فى خطر على أى حال، ولا يمكن حتى الرهان على أن الوضع الراهن والتدخل العقابى للزعيم أتانغانا ضد المهاجمين سيحسن من مصيرهم. ناهيك عن الانقلاب الذى خططت له عصابة بروفات، والذى كان أفضل طريقة لبدء حرب عرقية بشكل جدى. وإذا لم يأت شىء يمنع أحمر الشعر والمتواطئين معه من إطلاق النار للفرار، فسيخشى أن تنخفض المهلة النهائية لداميان إلى النصف. فبدلًا من المواجهة بين أهالى القبائل المختلفة، التى كان من المحتمل أن تحدث فى غضون خمسة أيام، ففى أفضل الحالات، سنجد أنفسنا فى غضون أربع وعشرين ساعة فى مواجهة صدام بين البيض والسود. ومن ثم، سيصبح من المستحيل بعد ذلك التنقل فى التقسيم الفرعى بأكمله، حتى فى الخارج، وسيُحكم على داميان بالاختباء فى الغابة، إذا نجت. لهذا السبب، أصبحت تنظر إلى كونارى بنظرة جديدة.

مقطع من رواية «عميان بافيا السبعمئة»

تأليف الكاميرونى موت لون، ترجمة بسنت عادل فؤاد