رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دبلوماسية الزلازل!

بدايةً تعازينا الحارة إلى كل ضحايا الزلزال المروِّع الذى ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سوريا، وأدى إلى كارثة إنسانية تمثلت فى عشرات الآلاف من المتوفين، ومئات الآلاف من الجرحى والمتضررين ماديًا ونفسيًا.

ومع عظم حجم الكارثة التى ستترك آثارها على البلدين، سوريا وتركيا، إلا أن الكارثة فى حقيقة الأمر أظهرت بعض الجوانب الإيجابية والتى تمثلت فى عودة الإنسانية إلى فطرتها الأولى التى خلقها الله عليها؛ إذ ظهر الجانب الإنسانى فى صورة واضحة فى حركة تضامن دولى لإزالة آثار الزلزال، المادية والمعنوية.

لكن الأهم من ذلك أن هذا الزلزال المروِّع أسهم وبشكل إيجابى على تجاوز كابوس التاريخ، وأقصد شبح الماضى، الذى يخيم للأسف على مقدرات أجيال لم تصنع هذا التاريخ الأسود. وكم كانت فرحتى بالمبادرة اليونانية بإرسال فرق الإنقاذ والمعونات الإنسانية إلى تركيا، الجار اللدود عبر التاريخ. ورأينا كيف شاركت فرق الإنقاذ اليونانية فى إنقاذ العالقين من الأتراك تحت الأنقاض، وشاهدنا توزيع المعونات الإنسانية على المواطنين الأتراك المتضررين من الزلزال. وكانت اللحظة المؤثرة على شاشات الفضائيات هى زيارة وزير الخارجية اليونانى إلى تركيا لتقديم واجب العزاء فى الضحايا، والتأكيد على مساندة اليونان لتركيا ماديًا ومعنويًا على تجاوز هذه الأوقات العصيبة. وكان تتويج ذلك لقاء وزيرى خارجية البلدين «تركيا واليونان» والتأكيد على التعاون المشترك بين البلدين، وأهمية تطبيع العلاقات بينهما والتعاون على تجاوز هذه الكارثة الإنسانية.

ولفهم أفضل لأهمية هذا الحدث التاريخى غير المسبوق، ولبيان دوره فى تجاوز التاريخ تطلعًا لمستقبل مشترك بين الجارين اللدودين، علينا أن نتذكر أنه بالأمس القريب ومنذ أشهر قليلة ساءت العلاقات بينهما، وكادت أن تصل إلى حد المواجهة المسلحة بين الجيشين التركى واليونانى. وإذا أردنا الإبحار فى التاريخ الرمادى بين البلدين علينا العودة إلى القرن التاسع عشر، وحرب استقلال اليونان عن الدولة العثمانية. والأكثر مرارة فى الأمر عمليات الترحيل القسرى بين البلدين، وتبادل السكان فى محاولة لخلق يونان دون مواطنين من أصل تركى، وتركيا دون مواطنين من أصل يونانى، رغم أهمية الحضارة البيزنطية التى تجمع بين ثقافة البلدين.

ولم يقتصر النزاع بين البلدين على الجانب العسكرى فقط، أو حتى السيطرة على جزر بحر إيجه المتنازع عليها، بل وصل النزاع بينهما حتى إلى النزاع على مسميات الأطعمة الشهيرة مثل: هل هى جبنة رومى أم جبنة تركى؟!

ولم تقتصر دبلوماسية الزلازل على العلاقات التركية اليونانية فقط، بل امتدت إلى العلاقات التركية الأرمينية، هذه العلاقات التى تحولت من علاقات تاريخية وحضارية إيجابية، إلى علاقات صراع ودماء منذ نهايات القرن التاسع عشر؛ حيث تبادل الطرفان الاتهامات بالقيام بمذابح جماعية، وتحدث الأرمن عن مذابح جماعية وتهجير قسرى من جانب تركيا للأرمن لا سيما أثناء الحرب العالمية الأولى، ورفض الأتراك ذلك واتهموا الأرمن بالتعاون مع أعداء الدولة العثمانية وأعداء تركيا بعد ذلك.

لكن الزلزال الأخير أعاد الإنسان إلى فطرته الأولى التى فطره الله عليها. وشاهدنا فتح المعابر البرية بين أرمينيا وتركيا لأول مرة منذ أكثر من ثلاثين عامًا. كما شاركت أرمينيا فى عمليات الإغاثة الإنسانية فى تركيا. وحضر وزير الخارجية الأرمينى إلى أنقرة وقابل نظيره التركى لتقديم واجب العزاء، والتأكيد على دعم أرمينيا لتركيا فى محنتها القاسية. بل وتحدث الوزيران عن ضرورة البدء فى تطبيع العلاقات بين البلدين، وهو أمر لو تعرفون عظيم، ومثير، ولم يكن أحد يتخيله منذ أشهر قليلة.

كان الزلزال بحق كارثة إنسانية كبرى، لكنه من ناحية أخرى خرج علينا بظاهرة مهمة وجديدة هى «دبلوماسية الزلازل»!