رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

23 ديسمبر: عيد النصر

أخشى ما أخشاه أن تضيع الذاكرة الوطنية، لأن ضياعها فى حقيقة الأمر يعنى فقدان «الأنا»، وفقدان «الأنا» يعنى العولمة وثقافة القطيع. ولا يتعلق الأمر هنا بالنوستالجيا أو الحنين إلى الماضى، لكنه يعنى فى الحقيقة مَن أنا، لكى أصف الحاضر، وأتطلع إلى المستقبل.

دار كل ذلك فى ذهنى عندما وجهت السؤال إلى طلابى: ماذا حدث فى ٢٣ ديسمبر ١٩٥٦؟ وماذا يعنى ذلك التاريخ لكم؟ ولن أستطيع أن أصف لكم ذهول الطلبة من سؤالى، وأيضًا ذهولى من عدم معرفتهم بهذا التاريخ. وبالقطع لا يمكن رد ذلك الأمر إلى عامل الزمن، وأن جميعهم وُلِد بعد هذا التاريخ ولم يعشه، فأنا أيضًا وُلدت بعد هذا التاريخ. وعندما قلت لهم إن هذا التاريخ كان «عيد النصر» وكان بمثابة عطلة رسمية، ارتسمت الدهشة على وجوههم جميعًا، وتجرأ أحدهم ووجه إلىَّ السؤال التالى: نصر! أى نصر؟! وأجبت: النصر على العدوان الثلاثى. ولكم أن تتخيلوا كيف تعالت أصواتهم جميعًا معًا: عدوان! وثلاثى؟! وحاولت أن أُجيب بشكل أكثر تبسيطًا، حتى لا أكون مثل نجيب الريحانى «الأستاذ حمام» فى الفيلم الشهير «غزل البنات» وهو يُعَلّم الطالبات القراءة العربية، بينما تنطق الطالبات «العربية» مثل «أولاد الأروام» على حد تعبير الريحانى.

أسهبت فى شرح لماذا سُمّى عيد النصر، بعد نجاح مصر دبلوماسيًا وشعبيًا فى إجلاء القوات البريطانية والفرنسية عن قناة السويس، لا سيما بورسعيد بعد احتلالها فى أعقاب القرار الجرىء للرئيس عبدالناصر بتأميم قناة السويس فى ٢٦ يوليو ١٩٥٦. وكان السؤال التالى لطلابى: بهذا الشكل هو عدوان ثنائى وليس ثلاثيًا، عدوان إنجليزى فرنسى؟ ورحت أشرح لهم كيف انضمت إسرائيل إلى إنجلترا وفرنسا، وكيف احتلت إسرائيل سيناء ولم تنسحب منها إلا فى العام التالى، أى عام ١٩٥٧.

لكن السؤال الصدمة فى حقيقة الأمر كان من إحدى الطالبات: لكن ٢٣ ديسمبر ليس عيدًا قوميًا، وبالتالى ليس عطلة رسمية؟ كانت إجابتى السريعة أنه كان عيدًا قوميًا، وعطلة رسمية. وأثارت إجابتى فضول الطالبة، وربما امتعاضها، ووجهت إلىّ السؤال الصاعقة: ولماذا تم إلغاؤه؟ ومَن يملك إلغاء الأعياد القومية؟!

ولا أستطيع أن أصف لك أيها القارئ الكريم حالتى آنذاك، إلى الحد الذى وجدتنى فيه أهمس إلى نفسى بالعامية المصرية: «أنا اللى جبت ده كله لنفسى! ليه أصلًا فتحت الموضوع؟!». لكن فى نهاية الأمر تغلبت روح المعلم وتمالكت نفسى، وبدأت أوضِّح أنه بعد وفاة عبدالناصر، تم تحويل عيد النصر إلى عيد لمحافظة بورسعيد، وبالتالى لم يعد عيدًا قوميًا، ولا عطلة رسمية. ولم ترق إجابتى لطالبتى، ولم ترض فضولها، وعليه استمرت فى طرح الأسئلة: لكن مَن يملك تغيير الأعياد القومية؟ أليس الشعب هو مَن يقرر ذلك؟ ولماذا أصلًا التغيير؟ أليس ذلك اعتداءً على التاريخ القومى؟! وهنا لم أملك إجابة، وسرحت فى بحر ذكرياتى، وعادت بى الذاكرة إلى أول أسبوع لى فى فرنسا فى مرحلة الشباب، وكم كانت دهشتى آنذاك عندما اكتشفت أن فرنسا ما زالت تحتفل بذكرى ١١ نوفمبر ١٩١٨، ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى، وما زالت تعتبره عيدًا قوميًا وعطلة رسمية، رغم تغير الأنظمة السياسية، لأن لا أحد يملك تغيير الأعياد القومية، لأن ذلك بمثابة اعتداء على ذاكرة الأمة. هنا التمست العذر لطلابى، وأدركت لماذا لا يهتمون بالتاريخ القومى.