رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو والتوازن الدولى «24»


الدول العـربية التى لا تجرى فى أراضيها أنهار فيضية فقد عانت بشدة من الاستنزاف الكبير لمخزون مياهها الجوفية فى الخمسين سنة الماضية خاصة دول الخليج



تناولت فى المقالات السابقة محتـوى المنظور الجيوبوليتيكى والبعـد القيمى للقوى العظمى والإقليمية الفاعلة فى منطقة الشرق الأوسط، مع عدم وجود منظورجيوبوليتيكى عربى موحد، الأمر الذى يتعـين معه ضرورة قيام القادة العـرب بإعادة تقييم الوضع العربى الراهن باعـتباره الموضوع الأهم الذى ينبغى طرحه فورا، حتى يُمكن تحقيق التوازن الاستراتيجى مع القوى الإقليمية غـير العـربية فى المنطقة أولا، وحتى يُمكنهم الإجابة على التساؤلات التى تدور فى الذهـن الجمعى العـربى ثانيا، وقـد تم وصف واقع العالم العـربى بأنه مجموعة متناثرة من الدول التى إن وجدت لها مكانا فى عالم اليوم، فإنها لن تجد لها مكانا فى عالم الغـد، عالم القوة والتكتلات الكبيرة، وتناولت أهمية المنطقة العربية من الزوايا الأمنية والعسكرية والاقتصادية باعتبارها قلب العالم، كما تناولت أهميتها من الزاوية الحضارية حيث كانت المنطقة موطنا لأقدم حضارتين شكلت للبشريـة ضميرها وقيمها، وحباها الله بأن تستقبل جميع رسالات السماء لهدى الأرض، ونقلت لأوروبا العلوم والفنون التى صاغـت أفكارها التى أصبحت أساس نهضته، إلا أنها افتقرت للحد الأدنى من التكامل والتقدم، فأصبحت عرضة للتحديات والتهديدات وهو ما سنتناوله اليوم.

ويعـتبر تحقيق أهداف الأمن القومى هوالغاية الأسمى لأى دولة / أمة، ويتحقق الأمن القومى بتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هى بقاء الدولة، وصيانة سيادتها واستقلالها، والعمل على نمائها وازدهارها، ولذلك سنتناول أولا التحديات والتهديدات المؤثرة على بقاء الوطن العربى، حيث يعـتـبـر الأمن المائـى هـو التحدى الأعـظم أمام العالـم العـربى، فهو يتجه إلى حافة أزمة واقعـة لا محالة حول محدودية الموارد المائيـة والفـقـر المائى، بما فيها الدول التى تجـرى فى أراضيها أنهار فيضيـة تنبع جميعها من خارج المنطقة، ويمكن التذكير بمشروعات إسرائيل وتركيا المائية حيث قامت الأولى بتحويل مجرى بعض الأنهار فى الأراضى المحتلة، بينما أقامت الثانية السدود على هـضبة الأناضول التى ينبع منها نهر الفرات، ففقدت كل من سوريا و العراق 32%، 37% من إيرادهما السنوى من مياه النهر، وهو النهج نفسه الذى اتبعـته إثيوبيا مع مصر عندما قامت بتعـديـل أبعـاد سد النهضة لزيادة سعـته التخزينية من المياه دون أن تزيـد قدرته على إنتاج الطاقة الكهرومائية، الأمر الذى يكشف هدفها الحقيقى وهو حرمان مصر من كامل حصتها المائية بما يؤثر بالسلب فى قوتها الشاملة.

أما الدول العـربية التى لا تجرى فى أراضيها أنهار فيضية فقد عانت بشدة من الاستنزاف الكبير لمخزون مياهها الجوفية فى الخمسين سنة الماضية خاصة دول الخليج، نتيجة لندرة مياه الأمطار، والنمو العـمرانى والزراعى والصناعى الذى شهدته، ومعدلات النمو السكانى الضخمة بما يفوق معـدلات النمو السكانى فى أوروبا بنحو عشر مرات، وارتفاع مستويات المعـيشة فى معـظم هذه البلاد، الأمر الذى يشير إلى اختلال معـادلة الأمن المائى، إذ تشير إلى أنه كلما زاد معـدل النمو السكانى فى دولة ما انخفض معـدل نصيب الفرد من المياه وانخفض نصيب الفرد من المساحة المزروعة أيضا فى هذه الدولة، وكلما ارتفعـت مستويات المعـيشة ازدادت معدلات استهلاك المياه والطاقة، مع ملاحظة أن 30% على الأقل من إنتاج الطاقة البترولية فى دول الخليج يذهب إلى محطات تحلية المياه، وقدأدركت تركيا واقع الوضع المائى فى دول الخليج، فأعلنت استعـدادها لمد خط أنابيب السلام لنقل المياه من أراضيها إلى كل من السعـوديـة والإمارات، وإلى الكويت عبر العراق لينتهى فى الشارقة بطول 240 كيلو متراً، وبيعه بسعـر أقل من ثلث تكلفة تحلية مياه البحر، وهو الاستراتيجية نفسها التى ستتبعـها إثيوبيا مع مصر إذا تمكنت من استكمال مشروعاتها المائية على النيل الأزرق، الأمر الذى يحمل فى طياته خطورة داهمة على معـظم الشعـوب العـربية إذا استمر الوضع المائى الراهن على ما هو عـليه، وهو ما يوضح مدى الحاجة الإستراتيجية الملحة لبناء إستراتيجية مائية موحدة تشمل كل الوطن العربى، قادرة على مجابهة ما يحيق بالأمن المائى من تحديات وتهديدات وصيانته وتعـزيزه.

وصفوة القول، فإنه فى غـياب الإدراك بأهمية بناء مثل هذه الإستراتيجية ، ستصبح جميع الدول العربية دون استثناء مستوردة لغـذائها، بالرغـم من امتلاكها إمكانيات زراعـية هائلة لبعض دولها، حيث ستزيـد الفجـوة الغـذائية اتساعا، ويصبح العالم العـربى بأسره عـرضة للتبعـية التى تعـتبـر الانجذاب الحـقـيـقـى نحـو التخلف، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد