رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثـورة 30 يونـيـو والتـوازن الدولى «15»


أما عـملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير فتتم من خلال عمليات فك وتركيب الدول المركزية، على أساس تركيبة شعـوبها عـرقيا ودينيا وطائفيا ومذهـبيا تحت دعـوى نشر الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان وتقليص مصادر التوتر والصراع لإحداث الاستقرار، مع ضرورة التخلص من جيوشها أو إضعاف قدراتها إلى أدنى حد ممكن

تناولت فى المقالات السابقة مسارات المنظور الجيوبوليتيكى للولايات المتحدة لإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، فكان المسار الأول لهذا المنظور هو إدراكها بنشأة حالة استقطاب جديدة مع بدء تحول النظام الراهن إلى نظام تتعـدد فيه الأقطاب، وقـد تؤدى هذه الحالة إلى بناء تحالفات وتحالفات مضادة، وهدم توازنات وبناء توازنات جديدة، وهو ما يبرر لنا تسارع حركتها فى بناء تحالف يضم القـوى غـيـر العربية فى المنطقة، وضم قطر كدولة عـربية حتى تضفى عـليه صفة التحالف الإقليمى، وكان المسار الثانى هو حتمية وجودها فى منطقة الشرق الأوسط التى تعـتبر من أهم المناطق الإقليمية وأكثرها حساسية، حيث قامت بالحصول على تسهـيلات فى أهم مـوانيها أولا، وقامت بغـزو واحتلال أفغانستان والعـراق ثانيا، ثم أنشأت مخازن طوارئ للأسلحة الثقيلة فى إسرائيل وتركيا والأردن ثالثـا، واليوم سأتناول المسار الثالث وأدوات تحقيقه وهو يتمثل فى حتمية تفكيك الدول المركزية فى المنطقة العـربية التى تحتل منطقة القلب والمكون الرئيسى للشرق الأوسط المطلوب إعادة صياغـته حسبما تقتضى المصلحة الأمريكية.

ويمكن ملاحظة أن الأداة الأولى تمثلت فى إغراق شعـوب المنطقة العـربية فى ثورات فوضوية، دون أن يكون لها قيادات قادرة على توجيهها وتقود تفاعلاتها، ولذلك افتقرت ثورات دول ما يسمى بالربيع العربى إلى الرؤيـة المستقبلية التى يمكن أن تلتف الشعـوب حولها لتحقيق استقرارها الأمنى والسياسى أولا وتحقيق أهدافها ثانيا، الأمر الذى أدى إلى الفوضى وجر الشعـوب إلى منزلقات الكراهية والتقاتل والتناحر ولم تتمكن هذه الشعـوب من إفراز نخب ثورية جاذبة وقادرة على قيادة هذه الدول، حتى إن النخب التى أفرزتها هذه الثورات ظلت عاجزة حتى الآن عـن تحقيق أهدافها التى قامت من أجلها، بل ظلت تعـتمد وتستقوى بالخارج لضمان بقائها، وهو ما يمثل الانجذاب الحقيقى نحو التخلف والتبعـية.

كما يمكن ملاحظة أن الأداة الثانية تمثلت فى تسليم دول الربيع العربى إلى جماعة الإخوان المسلمين، التى نجحت فى تقديم أوراق اعـتمادها للولايات المتحدة كبديل مثالى لنظام الرئيس مبارك فى مصر بعـد اصطدامه بالإرادة الشعـبية الرافضة لعـملية التوريث، فعـقدت معها التفاهمات والاتفاقات التى تضمن تحقيق الأهداف الأمريكية فى المنطقة بما فى ذلك أمن إسرائيل حتى أصبحت الولايات المتحدة غـيـر قادرة على الاستغـناء عـنها، ولذلك اعـتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها عـلى خطة إعلامية ضخمة تهدف إلى تحسين الصورة الذهنية للجماعة وتشويه معارضيها، واعـتمدت فى تخطيطها على أجهزة مخابراتها وتم تسويقها بواسطة شركات دعاية عالمية من خلال أدوات إعلامية تتمتع بمعـدلات مشاهـدة أو معدلات توزيع عالية فى جميع أنواع العالم.

أما الأداة الثالثة فقد تمثلث فى العمل عـلى طمس القيم والتقاليد والأعراف الراسخة فى المجتمعات العـربية، بما يسهل عملية تقسيم وتفتيت الشعـوب أولا، تحت دعـوى إحداث الاستقرار اللازم لصيانة الأمن الإقليمى والسلم الدولى، ويمهد إلى تأجيج الصراعات الدينية والطائفية والعرقية «سنة، شيعة، أقباط، مسلمون، يهود، عرب، فرس، أتراك، أكراد أحباش... إلخ» لتزيد حالة الفوضى الناتجة عن هذه الثورات.

وتمثلت الأداة الرابعـة فى تعـظيم دور المنظمات غـير الحكومية والمدنية والمهنية وما يعرف بالطابور الخامس فى مجتمعات دول الربيع العـربى، وتجنيد بعض الشباب وتدريبهم عـلى تنظيم المظاهـرات، ونشر الشائعات والأكاذيب ولى الحقائق، وتمويلهم بالأدوات والوسائل التى تضمن استمرار الفوضى والتأثير على معـنويات هذه المجتمعات، مع تشكيل تنظيمات وميليشيات مسلحة كخط متوازٍ لاستخدامها فى أعمال العـنف والإرهاب لإرباك وإضعاف مؤسسات هذه الدول خاصة المؤسسات السيادية والأمنية، بما يضمن إحداث فجوة عـميقة بين هذه المؤسسات وبين مكونات مجتمعات الدولة المطلوب إسقاطها من الداخل.

أما عـملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير فتتم من خلال عمليات فك وتركيب الدول المركزية، على أساس تركيبة شعـوبها عـرقيا ودينيا وطائفيا ومذهـبيا تحت دعـوى نشر الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان وتقليص مصادر التوتر والصراع لإحداث الاستقرار، مع ضرورة التخلص من جيوشها أو إضعاف قدراتها إلى أدنى حد ممكن، ولذلك وضعـت الولايات المتحدة فى حـساباتها الاستراتيجية أن الحدود القائمة بين دول المنطقة هى حدود غـيـر نهائية، باعـتبارها حدوداً تم ترسيمها بواسطة الاستعـمار، ولابد من إعادة ترسيمها بما يتمشى مع الوضع النهائى لعـمليتى تقسيم وإعادة صياغة المنطقة بما يتسق مع المنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى.

وللحديث بقية بإذن الله.

■ أستاذ علوم سياسية - جامعة بورسعيد