رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولي ومريد"..

أبوالعباس المرسى.. فقيه الأولياء


نحن الآن فى الطريق إلى مدينة الإسكندرية، تلك المدينة ذات التاريخ المزدهرالتى أخرجت للعالم كبار العلماء والأولياء والعارفين، نحن فى الطريق إلى مدينة «سيدى جابر» و«المرسى أبوالعباس» و«سيدى بشر» و«ياقوت العرش»، نحن على وشك الوصول إلى المدينة التى استقبلت مولد سيدى ابن عطاء الله السكندرى، نحن سنهبط الآن فى مدينة من فرائد الدهر، فكونوا معى بأصفى ما تكون بصائركم لكى ننظر إليها عبر الزمن، ونعود معًا إلى تلك الأيام الخوالى التى هبط إليها فيها شيخنا الشاذلى وتلميذه أبوالعباس المرسى. كان معهم صحبة من المريدين، ويا ليتنا كنا معهم، وسنفهم وهم فى البحر قبل الوصول إلى الإسكندرية بيوم تلك الحالة التى أصابت صاحبنا أبا العباس المرسى بشجن وحزن، فهو فى عرض البحر، وبالقرب من شواطئ الإسكندرية، وذكرى اللحظات الأليمة التى مر بها تراوحه وتسيطر على وجدانه، أراه الآن يتذكر السفينة التى غرقت بهم على شواطئ تونس، أراه وهو يبكى بصمتٍ بعيدًا عن الأصحاب والخلان، ويا لهذا الهم الثقيل! إن الموت فى حياتنا ليس أمرًا طارئًا، ولكن أفدحه ذلك الذى لا نستطيع أن نوارى فيه موتانا تحت الثرى، ولا يخفف من غلواء هذا الأمر أن تكون أجداث أمواتنا قد غابت تحت الماء، فالماء ليس مقبرة للإنسان، ولكنه التراب.
ولمَّا ضاق صدر صاحبنا ذهب إلى شيخه الشاذلى، وأخبره بحال قلبه والحزن الذى خيَّم عليه، والآن أيها السادة الكرام سنسمع الشاذلى وهو يقول لتلميذه المرسى كلامًا عجيبًا، وأدعوكم أن تستمعوا له بأرواحكم، فهذا كلام ليست الآذان مكان استقباله ولكنها الأرواح، قال الشاذلى: يا أحمد، فردّ عليه صاحبنا: نعم يا سيدى.
قال الشاذلى بصوته الودود: إن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ثم أنزله إلى الأرض، والله ما أنزله الأرض ليُنْقصه، ولكن أنزله ليُكمِّله، أنزله قبل أن يخلقه بقوله «إنى جاعل فى الأرض خليفة» فكان نزول آدم عليه السلام إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة» هل سمعتم كلام الشيخ؟ نزول آدم يا أبناء آدم إلى الأرض لم يكن نزول إهانة، أو عقوبة، لقد خلقه الله ليكون فى الأرض خليفة، لا لكى يكون فى جنة الخلق خليقة، فالله هو القائل: «إنى جاعل فى الأرض خليفة» وقد كان قوله هذا قبل خلق آدم، والآن فلنعد إلى الشاذلى ونستمع إلى بقية كلامه حيث قال: «وقد كان آدم يعبد الله فى الجنة بالتعريف، فنزل إلى الأرض ليعبد الله بالتكليف حتى تستكمل فيه العبوديتان، عبودية التعريف وعبودية التكليف، فإذا توافرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفة، وأنت أيضًا يا أحمد لك قسطٌ من آدم، كانت بدايتك فى سماء الروح فى جنة التعريف، فأُنزلت إلى أرض النفس تعبده بالتكليف، فإذا توافرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة».
الله الله يا مولانا، كل واحد من أبناء آدم فيه قسطٌ من آدم، فنحن مثل آدم، كان فى جنة التعريف، تلك الجنة التى انكشفت له حجب الغيب فيها، والتى عرف الله فيها، كان كالملائكة فهم يعبدون الله بالتعريف، وهو مثلهم، ونحن أيضًا كنا بأرواحنا فى جنة التعريف ثم أنزلنا الله لأرض النفوس، وأنزل علينا التكليف بعبادته، وأعطانا حرية الاختيار، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإذا عبدناه بالتكليف اجتمعت لنا العبوديتان.
كان كلام الشاذلى لك يا أبا العباس رسالة فهمتَها فاستراح قلبك، وانشرح صدرك وارتفعت عن أحزانك وآلامك، كنت يا أبا العباس وقتئذ متوقفًا عند علم اليقين، وعلى أعتاب عين اليقين، وأنت الذى يجب أن تكون فى حق اليقين، ومن كان فى طريقه إلى حق اليقين يجب أن يرى بنور الله، ويسعد بقضاء الله، ويحقق فى نفسه حمد الله.
سنشاهدك الآن يا فتانا وأنت تنزل بمعية شيخك الشاذلى ومن معكما عند عمود السوارى، ذلك العامود الرومانى الذى بُنى فى عهد دقلديانوس، ونزوره كلنا عند زيارتنا للإسكندرية ونزور معه مقابر كوم الشقافة الأثرية، وقد كان الجوع قد بلغ معكم مبلغًا كبيرًا، فلم يكن فى سفينتكم طعاما ولا زادًا، وعندما عرف أحد أبناء الإسكندرية الأخيار مكان نزولكم أرسل إليكم طعامًا، ومنذ الأيام الأولى فى الإسكندرية اختار الشاذلى الجامع الغربى الذى نعرفه الآن باسم جامع العطارين ليكون مقرًا لدروسه وجلساته، وظل أبوالعباس المرسى يلازمه كظله، والشاذلى يقول له وهو يراه يرتقى فى مدارج العارفين: «فيك يا أحمد كل ما فى الأولياء، وليس فى الأولياء ما فيك» ويوم أن سمعك وأنت تقول فى أحد دروسك: «من أحب الظهور فهو عبد الظهور، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، ومن كان عبد الله فسواءٌ عليه أظهره أو أخفاه» فقال له: «أنت يا أحمد عبدُ الله، أظهرك أو أخفاك» ولكن الله أظهرك يا سيدى، وسار خبرك بين الناس، وأحبك الذين رأوك والذين لم يروك، وتزوجت من ابنة شيخك الشاذلى وأنجبت منها الأبناء، وكنتَ المُربى الذى يُربى المريدين ويهذب نفوسهم، ويرشدهم إلى طريق الله، وفى ذلك كله كنت العالم الذى امتلك بين جوانحه علم الشريعة وعلم الحقيقة، وفى خلواتك كنت لا تبالى كم من الركعات ركعت، وكم من السجدات سجدت، وكم من الآيات قرأت، ولكنك كنت تبالى «كم من الله تقربت» وليت الناس يسمعونك وأنت تقول: «يقول أحدهم: صليت كذا وكذا ركعة، صمت كذا وكذا، ختمت كذا وكذا ختمة، فهؤلاء من أبناء العد والإحصاء، فهم إلى عد سيئاتهم أحوج منهم إلى عد حسناتهم» فلو سمعوك لعرفوا أن ميزان الله غير ميزان الناس، ورحمة الله غير رحمة الناس.
وما رأى أهل الإسكندرية رجلًا أرحم منك بالناس، وأشفق منك على الدواب، وأبعد منك عن الحكام والولاة، حتى إنك قضيت فى الإسكندرية ما قضيت ولم تسع إلى زيارة حاكم أبدًا، وكنت تقول: «ما لى حاجة بالحكام وأنا مع أحكم الحاكمين» وظللت عمرك وأنت تُبشر برحمة الله، حتى إنك قلت: «لو عرفتم رحمة الله لرأيتم أبا الطواجن يوم القيامة وهو ينال قدرًا منها»، وأبوالطواجن هذا هو الذى ادعى النبوة ثم قتل «عبدالسلام بن مشيش» شيخ أستاذه الشاذلى، وأشهد يا سيدى أنك لم تقل أبدًا تلك العبارات البلهاء التى تخرج من علماء هذا الزمان بأن الله لن يرحم، وأنه لا يجوز الترحم على كذا وكذا، وما عرفت معنى كلمة «فتى» إلا منك أنت يا سيدى حينما قلت: «إن إبراهيم سُمى فتى لأنه كسر الأصنام، فهو الفتى الخليل، وجد أصنامًا حسية فكسرها، وأنت لك أصنام معنوية، هى النفس والهوى والشيطان والدنيا فإن كسرتها كنت فتى فقد قال الله تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)..».
وأنت الفتى، حطمت أصنامك المعنوية لتكون لله وحده، وبعد أن مات شيخنا الشاذلى ورثت عنه مشيخة الطريقة، وحملت لواء الأولياء، وتعاقب الأولياء سُنة من سنن الله فى خلقه، فلا ينقطع عطاء الله لنا أبدًا، إلى أن جاء بعدك «ابن عطاء الله السكندرى» وهو الذى سنعيش معه فى المقال التالى.