رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صبري موسى يحكي كيف نبتت فكرة فساد الأمكنة

صبري موسى
صبري موسى

بالرغم مما قدم من أعمال أدبية خالدة ومغايرة، إلا أن روايته «فساد الأمكنة» ظلت هي درة التاج، حتى أنها جاءت ضمن أفضل مائة رواية عربية، وقال عنها الدكتور علي الراعي: «هذه رواية فذّة، كتبها روح شاعري، يتمتع بحسّ اجتماعي وسياسي مرهف، وروح تنفذ إلى ما وراء الأشياء، وتستحضر روح الطبيعة والإنسان معًا، وتكتب هذا كله بلغة مشرقة؛ أنيقة ورصينة وجميلة. وهي بهذا علامة بارزة في الأدب العربي».

وتحكي الرواية حول قصة نيكولا الذي تمرد على عالمه وراح ليعيش في الصحراء حيث الطبيعة البكر والعالم الملئ بالغرابة والكثير من الحكايات عن إيليا والملك.

ودائمًا ما تكون خلف الأعمال العظيمة قصص وتفاصيل عظيمة ومعاناة شديدة، فليس هناك صدفة في الإبداع، فكل كتابة جيدة ورائها ثقافة عظيمة وتجربة إنسانية ومعناة عظيمة، رواية فساد الأمكنة كذلك كان ورائها تفاصيل وحياة عاشها الكاتب الكبير صبري موسى وإلا كيف نبتت تلك الفكرة العظيمة والمغايرة.

في حواره أجراه مجاهد عبد المنعم مجاهد مع الكاتب الكبير «صبري موسى» حكى خلاله تلك المعاناة وكيف أستشف تلك الفكرة العظيمة، قائلًا: فقد ظلت الرحلة في الصحراء تستهويني منذ وعيت أن مصر بلادي منتزعة من براثن تلك الصحراء انتزاعا «هبة النيل» وكم كانت دهشتي وأنا أراها من مقعدي في السماء داخل طائرة، شريط رفيع طويل أخضر لا يكاد يرى وسط مساحة هائلة من اللون الأصفر الصخري!

ويشير صبري موسى إلى رحلته الأولى إلى الصحراء وقد كانت في الخمسينيات 1958 تجاه الغرب وراء السلوم وحدودنا مع ليبيا وكيف بدت له الصحراء الغربية آنذاك جيرية بيضاء، تبدو فقيرة عاطلة إزاء البحر العظيم الأبيض، ويؤكد صبري موسى على أنه لم يكتب بعد تلك الرحلة سوى بعض المقالات تتناول بالاشفاق حاجة سكان تلك الصحراء من الاهتمام والرعاية.

بينما كانت رحلته الثانية في الستينيات 1963 فقد رحل إلى الصحراء الشرقية، فيما وراء أسوان والسد العالي وحدودنا مع السودان، وقد رحل أكثر من مرة بأكثر من وسيلة، «مرة بالقطار حتى قفط ومنها بالسيارة عبر طريق الحج القديم إلى القصير على البحر الأحمر ثم مرسى علم وأبو غصون إلى الصحراء الحقيقية، ومرة من السيارة مباشرة من السويس بحذاء البحر الأحمر حتى برانيس في أربع وعشرين ساعة متواصلة، اشتريت بعدها سجائري من قرية حلايب المصرية السودانية التي تعيش على شاطيء البحر الأحمر خارج نطاق الحدود الدولية وخارج نطاق الزمن أيضًا حيث باع لي سجائري الأمريكية الحديثة المستوردة مخلوق أسمر في ثياب بيضاء يضفر شعره على طريقة فراعنة طيبة القديمة».

ويشير صبري موسى إلى زيارته مرة بالطائرة والتي حملته من القاهرة ذات فجر وأسقطتني بعد ساعتين في قلب الصحراء عند حماطه، وهي نقطة صغيرة للأمن والاتصالات اللاسلكية يبعد ساعة وربع ساعة بسيارة النقل القديمة عن جبل الدرهيب حيث كان فورا مبيتي في معسكر خشبي مهجور يخص منجمًا قديمًا عاطلًا عن العمل.

وعلى حد قول صبري موسى لم يجد في هذا الجبل أبدًا ما يميزه عن غيره من الجبال سوى اسمه الغريب الايقاع والتكوين، وقد ظل هذا الاسم يلح على خياله طوال ارتحاله في الصحراء وكأنما هو لغز مهيب تلقيه الطبيعة بين الحين والحين عبر طريقه، يعترضه ويطالبه بتفسيره.

ويقول صبري موسى: وتنضاف إلى هذا اللغز تلك المعطيات البكر التي منحتها لي الطبيعة عبر الرحلة وأهمها ذلك الإحساس الغامر الحقيقي بحدة كل شيء وبكارته وكأنما العالم يوجد في تلك اللحظة فقط بالنسبة لي، رغم قدمه الشديد، مما يعطيني الحق بأن أضع له قوانينه وقواعده لأبدأ في تشكيله على هواي، وأبتكر له مخلوقاته وسكانه، فكيف إذا لا تنبت في داخلي فكرة هذه الرواية.

هل ما زالت للدرهيب في نفسك بقية يمكن أن تصلح موضوعا لعمل فني قادم ؟
وعن جبل «الدرهيب» الذي كان مسرحًا لفساد الأمكنة يقول: أعتقد أن الدرهيب في فساد الأمكنة قد تحول إلى رمز الأرض بشمولها وأن «نيكولا» هو الإنسان في شموله، وقد اكتفت فساد الأمكنة بأن تضع نيكولا في مواجهة كل الأسئلة التي يطرحها الدرهيب حول فكرة الوطن والأسرة أو الزواج والجنس والعمل والصداقة، وقد بدأت الأسئلة التي يواجهها عنيدة وقاسية لدرجة انه يسلم بعجزه في النهاية، ويرغب هربا من هذا العجز- أن يتحد بالطبيعة الأم فيصبح حجرًا أو صخرة من صخور الجبل ويصبح بالتالي قويًا وعظيمًا مثل الطبيعة.