رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خيري شلبي: صبري موسى شديد الشبه بمدينته دمياط

الروائي الكبير الراحل
الروائي الكبير الراحل خيري شلبي

كتب الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، مقالًا كاملًا عن صبري موسى، الروائي الكبير وصاحب «فساد الأمكنة» الذي رحل عن عاملنا منذ ساعات قليلة، وصفه فيه بالإنسان الجميل، وعلاقته بمدينته دمياط بلغة شفافة وانسيابية.

«الدستور» تعرض مقال الحكاء العظيم خيري شلبي في صاحب فساد الأمكنة:

قرص جبنة دمياطية كاملة الدسم.. منظره فاتح للشهية

حتى إن كنت شبعان فإن ريقك يجرى ولا تجد حرجا فى أن تمد إصبعيك وتقتطع نتفة تطوح بها فى فمك.

لعله قرص من حلوى المشبك الدمياطى..

لعله كتلة من الشكلمة، تلك الحلوى المغربية الأصل التى استوطنت مدينة دمياط واكتسبت عذوبة ماء النيل وخصوصية مناخ دمياط وزخمها التاريخى العتيق.

كل منتجات هذه المدينة العريقة- من صناعة الجبن الأبيض والموبيليا إلى صناعة البشر- تحمل خصائص دمياط ونكهة جوها.

الكاتب الأديب صبرى موسى مثلا، يشبه دمياط قلبا وقالبا.

دعنا من الشائعات الفولكلورية العتيقة التى التصقت بكل إقليم من أقاليم مصر صفة أو صفات من قبيل الهجاء اللطيف لأهله أو لطبيعة موقعه. تلك شائعات تدخل فى باب الفن وحده ولا تصلح أن تكون وثائق للكشف عن مضمون الشخصية الإقليمية، ولو نظرنا إليها باعتبارها فنا خالصا وليست أحكاما فسنكتشف أنها قصدت معانى أخرى ودلالات غير التى فرضناها عليها.

فـ«ألف نورى ولا دمنهورى» - مثلا - لا تعنى أن الدمنهورى الواحد أكثر لصوصية من ألف لص من لصوص النور، إنما تعنى أنه تاجر متودك حصيف يعرف كيف يكسب فى البيع والشراء، أما صورة البخيل الدمياطى التى تحفل بها أدبيات النكتة المصرية من أنه يقول لضيقه دائما: «تتعشى ولا تنام خفيف؟». فالمقصود بهذه الطرفة أن الدمياطى شديد الحرص على ماله بحكم كونه فى ملقف، ودمياط كميناء عتيق تتلقى الغزوات المستمرة فلا بد لابنها أن يحرص على ألا يستغفله أحد.

هكذا صبرى موسى بالظبط..

إنه شديد الشبه بمدينته الحبيبة دمياط، حتى يكاد يكون تشخيصا لشكلها العريق الساحر، وتلخيصا لمضمونها الاجتماعى الموغل فى القدم، المتطلع دائما إلى آفاق بعيدة بحكم انسياب نهر النيل من خلفه ومن حوله، الجامع بين عذوبة النهر وملوحة البحر فى مزيج عبقرى مستساغ، هو عذب شديد العذوبة حين يستغربك أو يشتم فيك رائحة الغزاة حتى وإن كنت من بنى جلدته.

إنه كذلك ابن مجتمع عملى صرف، لا مجال فيه للرحرحة، للثرثرة، للمجاملات المفرطة، الحوار فيه كلمة ورد غطاها.. بكم؟ بكذا، ألا ينفع بكذا؟ يفتح الله، حوار من خلال العمل والعمل على عينك يا تاجر، ها أنت ذا فى ورشة الموبيليا مثلا، ترى بعينيك نوع الخشب وأسلوب الصنعة والعرق المتصبب فى استنطاق الخشب وتأليف الأسرة والدواليب والمقاعد الوثيرة، هو مجتمع حرفى يلعب فيه الفن دورا كبيرا، وتشهد موبيلياته ذوقا فنيا عالى المستوى، هو كذلك مجتمع رومانسى الهوى، شاعرى الموقع، فأن تقف مدينة على ناصيتى البحر والنهر معا فحدث عن سحر موقعها ولا حرج، لا غرو فمدينة دمياط وضواحيها كانت طول عمرها حقلا خصيبا يغذى العاصمة بأعلام عظام، فى الشعر والأدب والموسيقى والسياسة لو حصرناهم فى تاريخنا الحديث وحده لاحتجنا إلى مجلدات لا تكفى مكتبة الإسكندرية.

وجه صبرى موسى قريب الشبه إلى حد كبير جدا بشكل ميناء دمياط القديم: بيضاوى، انسيابى كقارب الصيد منفرج الشفتين من الجهتين.

من بعيد يبدو الوجه جميلا جدا كالقمر، كل ملمح فيه مضيء وواضح بشكل حاسم وضوحا جميلا أيضا. وإنه لمن الوجوه النادرة التى تشبه - لشفافية بشرتها- شاشة الكمبيوتر تتشكل فوقها الحروف والألوان فى جمل مفيدة وأشكال دالة، وفقا لأصابع خفيفة فى قلبه تعزف على لوحة الحروف نقوشا تجسد المشاعر والخواطر والأخيلة.

ولذا فأنت لست محتاجا لأن تسأل صبرى موسى عن رأيه بوضوح وصراحة فى أى أمر من الأمور، لأنك بمجرد طرحك للأمر سترى كل شيء على صفحة وجهه بصراحة ووضوح قبل أن ينطق، فإن نطق فكلمات دقيقة موجزة تلخص موقفه بإيقاع حاسم، وتلخيص الموقف هو العنوان الشامل الجامع لجوهر الرأى، فإن طلبت منه تجديد رأيه بكلمات مجردة محددة فإنه - أقصد شاشة وجهه - سيعكس اعتراضا غير منطوق مؤداه أن الأمر فى نظره لا يصلح فيه الحسم والتحديد إذ إن كل شيء نسبى وكل نسبة تحمل قدرا من العاطفة، كل رأى - أدبيا كان أو فنيا أو سياسيا أو فى أية قضية من القضايا - لا ينبغى أن يترك للعقل المجرد وحده دون بطانة من العاطفة. إن العاطفة هى بمثابة الزيت لمحرك السيارة، إذا لم تنتشر بين خلايا العقل - بمقدار - تصادمت الأفكار، وأدى احتكاكها العنيف ببعضها إلى تلف الرأى فى النهاية.
صبرى موسى حدوتة كبيرة، لكنها مع الأسف أفلتت من حواديت صبرى موسى حتى الآن، مع أنها أجمل وأخطر حدوتة ألفها فى حياته.

أقول إن وجهه البيضاى القمرى يبدو على مبعدة كوجه نجم من نجوم السينما العالمية: اتساق فى الملامح، رقة فى التقاطيع، شفافية البشرة، سحرها الخادع الذى لا يشيخ ولا يذبل أبدا باسم الله ما شاء الله لأن قلبه المخضوض دائما يضخ فيها الصفاء والحياء والاشتهاء الدائم للتفاصيل المثيرة، والتلهف إلى لحظات المرح، والروقان، والسرحان، فابن الثغر الدمياطى لا يشذ عن أبيه الذى أدمن الإنصات لهسهسة الموج الحميم وإطلاق البصر لاستقبال الأشرعة البازغة على مشارف الأفق. ابن الثغز الدمياطى لا يستطيع التفكير بسلامة والكتابة بتركيز حقيقى بعيدا عن الضوضاء الغوغائية.

تراه- من بعيد كذلك- فتظنه من الأرستقراطية المنعمة، تربى فى المدارس الأجنبية وأكمل التعليم فى لندن أو باريس هذه الصورة يدعمها سلوك غاية فى الانضباط، إنه ابن ناس أحسنوا تربيته، ها هو ذا يتكلم بصوت خافت، وبأدب جم، ينتقى ألفاظه ويلفها فى ورق السوليفان قبل أن يسلمها للأذان المصغية من فرط أدبه ورقته يكاد يعتذر لك عن كل كلمة، عن كل شيء لا يعجبك فى الكون فى المجتمع فى الحياة برمتها كأنه المسئول الأول والأخير عما تعانيه أنت من وجع.

ولكنك إذا اقتربت من وجه صبرى موسى ومن شخصيته فسوف تكتشف ما لم يكتشفه كولومبس على الساحل الهندى الأحمر، ستضع يدك على أخيك فى الرضاعة، رضاعة الشقاء والمدعكة القاسية فى رحلة كفاح عظيمة مشرفة لصبى متفتح القلب والوعى أصبح علما من أعلام العرب المعاصرين ورائدا من رواد الأدب الحديث، يجب أن يقام له تمثال حى فى كل قلب من قلوب القارئين.

سترى فى وجه صبرى موسى كسرة خبز قمحى، وباذنجانة مخللة، وقرصا من العجة، وقلة ماء رطيبة، وكوب شاى ثقيل، وحصيرة، ولوحا من الإردواز، وطباشيرة، وقلما من البسط ودواة حبر من هباب الفرن، وزجاجة صمغ من عرق أشجار السنط ومخلاة من قماش قديم فيها كتب وكراريس، وجلبابا نظيفا من الزفير المقلم وخواطر ذكية وروحا مشرقة مليئة بالتصميم والإصرار والقدرة على النجاح بجدارة وشرف واستحقاق، سترى كذلك حارات لولبية ضيقة، لكنها ذات سحر فى زخمها الإنسانى ودفئها وشوارع ينعشها هواء البحر برائحة اليوم، وخيرات جلبتها شباك الصيادين ومصانع جبنة وورش الموبيليا ومقاهى شعبية لا تستقر كراسيها ومناضدها على أرض غير مرصوفة، ومساجد من العصر الإسلامى الأول، وأنتيكات ومأثورات تركها الغزاة العابرون، وحكايا لا نهاية لها زرعها المصطافون من جميع أنحاء الدنيا فى عشش رأس البر، وحلوانية، وأراضى زراعية عفية شاسعة..

كل هذا وذاك تعكسه شخصية وأدب صبرى موسى، ذلك الأدب المكتوب بروح دمياطية صرفة تتمثل فى الحرص الشديد على أن يكون البوح محسوبا بمعيار دقيق، إنه لا يعرف البساط الأحمدى، لا يعرف الاسترسال التلقائى إلا بهامش يقظ جدا فى خلفية الصورة، يلملم ما يمكن أن يسقط رغما عنه من خصوصيات ثمينة لا مجال لعرضها الآن أو هناك، بل يجب ادخارها، وأحيانا تجب مصادرتها وفقا للمعايير التى انتهجها منذ وقت مبكر ليصوغ بها شخصية على هذا النحو المحبوك المنضبط لا غرابة، فهو ابن شريحة حضرية من شرائح الطبقة المتوسطة الزراعية، وأعنى بها كبار وصغار موظفى الدولة، إنه مجبول على الانضباط شكلا ومضمونا ليكون جديرا باحترام المجتمع، إذ ليس له ثمة من سند يفرضه على المجتمع فى مركز مرموق لا مال ولا جاه ولا سلطة، إذن فرأسماله حينئذ هو بناء الذات على أسس سليمة عملا بالقول المأثور الصيني: «أنت حيث تضع نفسك»، وما يقابله عند المتنبى شاعر العرب من قوله: «ليس الفتى من يقول كان أبى.. إنما الفتى من يقول ها أنذا»، وكان لا بد لصبرى موسى بوعيه الطبقى المبكر ونضجه الفنى الأبكر، أن يبنى شخصيته على النحو الجدير بالاحترام بحيث يفرض احترامه على كل من يحتك به بأن يكون حسن السمعة والسلوك مثل الجنيه الذهب لا تخرج منه العيبة، يعامل الآخرين بالأسلوب الذى يرجو أن يعامله به الآخرون، يمسك عن الثرثرة حتى لا يقع فى أغلاط غير مستحبة، يفرز محتوياته أولا بأول فرزا دقيقا ليعزل ما يمكن أن يقال عما لا يصح قوله، حتى وإن كان جميلا، ولهذا فقلما تكون شخصية صبرى موسى - أو حياته - مصدرا لقصصه، باستثناء القصة العظيمة «التباس» التى كتبها عن شيخوخة أبيه بقدر كبير من الشفافية المدروسة، أما رواياته الشهيرة: «فساد الأمكنة» و«الرجل من حقل السبانخ» وحتى حواديته وقصصه القصيرة فإنها لا تحمل من حياته الشخصية سوى عطر الأسلوب، وربما كانت رواية «حادثة النصف متر» هى الوحيدة التى لا تسقط الخصوصية الشخصية مهما خباها الفن.

أسلوبه شديد الاقتصاد..

وبهذه المناسبة، فلا بد أن نسجل ها هنا شيئا حرمه صبرى موسى وسكت عنه التاريخ ذو الذمة الواسعة.
ذلك هو أن صبرى موسى يعتبر أحد أهم رواد الحداثة فى القصة المصرية القصيرة ولعله المنجز لما أسماه السابقون بالقصة الصحفية القصة التى يقرؤها قارئ الصحيفة العجول البرم، وتكون كالحقنة التى تترك فيه أثرا فوريا، ومنذ أن اتسعت الصحيفة لفن القصة القصيرة والرواد يحاولون خلق نموذج يؤسس للقصة التى تخاطب أفهام القاعدة العريضة جدا من عامة القراء، دون أن تبتذل نفسها أو تخرج عن دائرة الأدب - بمعنى ارتفاع مستوى التعبير - أو عن دائرة الفن - بمعنى الالتزام بقواعد وتقاليد وموروثات هذا الفن التزاما خلاقا متطورا مع تطور الوعى الاجتماعى، فى هذا تتنافس الأصائل من محمود كامل المحامى، ويحيى حقى ورفاقه أعضاء المدرسة الحديثة أمثال أحمد خيرى سعيد وطاهر لاشين وعيسى عبيد وغيرهم، ومحمود البدوى ونجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ويوسف جوهر وسعد مكاوى وإبراهيم الوردانى وإحسان عبدالقدوس، ثم الجيل الأنضج الذى قاده يوسف إدريس، ومنه صبرى موسى، وإدوار الخراط، وسليمان فياض، وصالح مرسى، وعبدالله الطوخى، وأبوالمعاطى أبوالنجاو، وفهمى حسين، وعبدالفتاح رزق وغيرهم ولكل واحد من هؤلاء جهده ولونه وعالمه، ولكن صبرى موسى يتميز عنهم بكونه صاحب مدرسة خاصة كرست وأسست للقصة الصحفية النيرة، إذ كان البعض يظن أن كلمة «الصحفية» تقلل من القيمة الأدبية والفنية للقصة، فإنه ظن خاطئ تماما كأى ظن، فالواقع أن القصة الصحفية التى قدمها صبرى موسى كانت وستظل أدبا خالصا مع ذلك، وفنا قصصيا بالدرجة الأولى، كل ما هنالك أن هذا الفارس الدمياطى النبيل عرف كيف يصب رؤاه الفنية فى أزياء شعبية بالغة الرشاقة والبساطة والاحترام.

ومن هنا، فليس ثمة من تناقض بين صبرى موسى الأديب وصبرى موسى الصحفى، لأنه فى الحالين ذلك العصفور الرشيق ذو النغم الشجى الآسر العاشق للطيران على علو شاهق إلى مسافات بعيدة ليتعرف على البحيرات والأودية والواحات.

لقد عرفته فى أوائل الخمسينيات عبر أقاصيصه المبكرة التى كان ينشرها فى مجلة صبحى الجبار: قصتى، ويوقعها باسم صبرى محمد موسى، وهى الأقاصيص الرومانسية البديعة التى جمعها فى أول مجموعة له بعنوان «القميص»، وكانت مذاقا جديدا فى الرومانسية القصصية رومانسية مجدولة من عناصر الواقع الميلودرامى الحزين، وكانت انطلاقته الحقة بعد ذلك بقليل فى مجلة الرسالة الجديدة التى كانت تصدرها آنذاك دار التحرير للطبع والنشر، ويرأس تحريرها يوسف السباعى يرحمه الله.

كل القصص التى نشرها صبرى فى تلك المجلة الأدبية الحميمة، ثم فى مجلة صباح الخير، مثل: «رجل بلا تفاصيل»، «سهرة بأرخص التكاليف»، «بطلناه»، وغيرها، كانت بداية نضجه الحقيقى، الذى توج بعد ذلك فى «حادث النصف متر وفساد الأمكنة والرجل السبانخ ولا ننسى أن العمل الصحفى قد عطل صبرى لبعض الوقت، وأن تجربته فى كتابة السيناريو السينمائى قد أخذت من وقته الكثير، إلا أنه ونحن جميعا لم نخسر لأن صحافته كانت أدبا نطرب لقراءته وسيناريوهاته كانت تحفا فنية لعل أقربها إلى الذهن «الشيماء» و«البوسطجى»، ومنذ أن قابلت صبرى موسى أول مرة فى العام الواحد والستين وحتى اليوم لا يزال ذلك الشاب - امسك الخشب - المقبل على الحياة برهافة وحساسة وشاعرية هيهات أن تخدشها صخور الواقع.