رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ملحمة «طوكر» «2»


نستكمل عرض جزء من رواية «طوكر» – حكاية مائة وألف قمر – للأستاذ الدكتور عمرو شعراوى، أستاذ الفيزياء بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. لم أستطع النوم فى الليل بسبب صخب عساكر الإنجليز الذين يقومون بحراسة سور الحصن. البوارج الراسية فى الخليج أضاءت المكان بكشافاتها الكهربية الحديثة. طوال الليل كان يمكننا رؤية تحرك المهديين على مسافة كبيرة من السور، وبين حين وآخر تدوى طلقات بنادق أفراد الحراسة ونسمع نداءاتهم التى لا تنقطع.

وأخيراً تقرر اليوم الذى سنتقدم فيه إلى طوكر بعد وصول آخر الوحدات من سواكن بالإضافة إلى انضمام كتيبتى «يورك» و«لانكستر» القادمتين من عدن. بيكر باشا صمم على أن يرافق الحملة، و«جراهام» سمح له بذلك. قضينا ليلة تحت رخات من مطر خفيف لا ينقطع، وسماء مُلبدة بغيوم خنقت هلالاً أطل من بين السُحب. اختار الجنرال «جراهام» أن يسلك نفس الطريق الذى سلكته حملة بيكر البائسة، وتحسُباً لسرعة الانقضاض التى أظهرها مقاتلو قبائل «البجا» فى كل المعارك السابقة، قرر «جراهام» أن تتقدم قواته منذ البداية على هيئة مربع دفاعى. تململ الضباط من هذا القرار وذلك بسبب بطء هذا التشكيل، وطول المدة التى سنحتاجها لنقطع الطريق إلى طوكر إذا تحركنا كمربع بدلاً من الطوابير المعتادة. تشبث «جراهام» برأيه وتحركت قواته فى التشكيل الذى أصر عليه. الجمال والبغال التى حملت المعدات والمؤن تمركزت فى وسط المربع، بينما أحاط الخيالة بمحيطه الخارجى.

أعرف الدرب جيدا فقد سلكته من قبل. اختلطت الأدوار ولم أعد أحمل سلاحى، مسئولياتى انحسرت فى قيادة الإبل والبغال. أحسست بالأمان لوجودى بداخل مربع منتظم الصفوف وسط عساكر مدربة تدريباً جيداً. الحرس الأسكتلندى بقِربه ومزاميره كوّن الضلع الأمامى، أما وحدات الجيش ومشاة البحرية ذوو القمصان الزرقاء فقد كوّنوا باقى أضلاع المربع. هواجس الهزيمة رافقتنى طوال الطريق، خطواتى هى نفس الخطوات، والعدو الذى عهدت شراسته ينتظرنا عند آبار التب فى نفس المكان. فى بداية مسيرتنا رعدت السماء وأنهمر مطر غزير كأنه يعطى إشارة البداية لحلقة جديدة من حلقات النصر والهزيمة. درب الأحزان ملأته مخلفات حملة بيكر التى مرت فوقه منذ شهر واحد فقط. رأيت أشلاء قتلانا التى نهشت جثثهم الجوارح والوحوش. تناثرت جثامين عساكرنا وسط أشجار السّنط بعد أن جردها أنصار المهدى من متعلقاتها. شواهد متناثرة تدل على الخسارة الفاحشة.

رؤية آثار هزيمة الجيش المصرى تقبض أنفاسى. أخجل من نفسى لأننا لم ندفن قتلانا بشكل لائق، فهل سيواريهم الإنجليز بدلاً منا؟ بعد مسيرة ميل أو أكثر شاهدنا.

وهنا أتوقف لأتابع الرواية بنفسى بعد أن ازددت شوقاً لاستكمالها. تحية صادقة للروائى الرائع الذى تقابلت معه بينما كنت أتجول بمعرض الكتاب الذى أقامته الجامعة الأمريكية بالقاهرة بمناسبة انتهاء فصل الخريف الدراسى. وما أن رآنى حتى قدم لى تحية حارة ونسخة من ابداعاته الصادقة. فله منى كل الشكر.

الرواية فرصة رائعة للقارئ الذى يود أن يجمع خليطا بين الأسلوب الأدبى الراقى والخيال الخصب وأيضاً الوقائع التى شهدتها تلك الفترة فى تاريخنا العظيم.

■ عضو المجمع العلمى المصرى