رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اغتيال الأمم

شكليًا: كل الدول مستقلة ذات سيادة في النظام العالمي الذي تأسس بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية. عمليًا: الكتلة الغربية تسيطر على القرار العالمي وتتدخل بفجاجة في الشئون الداخلية للدول النامية، لا سيما منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وتحول العالم إلى الأحادية القطبية بزعامة أمريكا.

الولايات المتحدة كانت حريصة طوال العقود الماضية على أن تغطي تدخلها الفج في الشئون الداخلية للدول بأغطية متنوعة، أبرزها الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخطرها التكيف الهيكلي والتنمية الاقتصادية. كانت واشنطن ترغب في إذعان كامل من الدول النامية في إطار حربها الباردة مع السوفييت. حتى أداة المساعدات الاقتصادية أو العسكرية استخدمها الأمريكان لنفس الغرض لا لمساعدة تلك الدول على النهوض وتحقيق التنمية كما هو معلن.

القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة لتحكم بها في خصومتها مع الدول الأخرى، تساهلت فيها أحيانا، وتشددت فيها أحايين. والمعيار هو مدى انصياع نظام الحكم في أي دولة لأوامر السيد الأمريكي. كل الدول التي حاولت الحفاظ على قدر من استقلالية قرارها السياسي تعرضت لإجراءات تأديبية مباشرة أو غير مباشرة، تفاوتت ما بين العقوبات والحصار وإشعال الأزمات الاقتصادية والتجويع، وما بين الاحتلال العسكري والإطاحة بالحكومات الوطنية التي تسميها واشنطن بالمارقة حتى لو كانت النتيجة تدمير كامل للدولة وتشريد شعبها في المنافي.

بنظرة مبدئية مجردة، نجد معظم الدول التي توترت علاقاتها بواشنطن خلال العقود الثلاثة الماضية لمجرد أنها رفضت إملاءات معينة في أي ملف وحاولت الحفاظ على استقلالية قرارها الوطني، تعرضت لهزات اقتصادية عنيفة، أغلبها مقصود ومدبر، لتجد تلك الدول نفسها مضطرة لمد اليد والذهاب إلى مؤسسات التمويل الدولية، وهنا تستغل واشنطن الفرصة وتضع السكين على رقابها. 

مع اختلاف الزمن والأدوات، تكاد تلمس التطابق في السياسات الأمريكية مع سلوك المرابين في القرون الوسطى الذي أفرز الفكر الصهيوني في نهاية المطاف، وأغرق العالم في المؤامرات والمكائد، وتسبب في زيادة منسوب التوترات والصراعات الدموية في مختلف أقاليم العالم، بالصورة التي نعيشها منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى حتى اليوم. 

كثير من قادة الولايات المتحدة الأمريكية لا ينفون صلاتهم بالصهيونية العالمية وتأثرهم بها ومن ثم خضوعهم الكامل لها، آخرهم كان الرئيس الحالي جو بايدن الذي أعلن غير مرة على رءوس الأشهاد "صهيونيته الكاملة الموروثة عن والده"، وكذلك الرئيس السابق دونالد ترمب وصهره جاريد كوشنر.

في كتاب "الاغتيال الاقتصادي للأمم" يعترف مؤلفه جون بيركنز، الذي كان يعمل ضمن مجموعة من قراصنة الاقتصاد الأمريكيين المحترفين ويعرفون بـEconomic Hit-Men، بأن مهمتهم كانت تتلخص في إخضاع كافة الدول الضعيفة والنامية للولايات المتحدة إما لأنها تزخر بالبترول، والموارد الطبيعية أو لأهميتها الجيواستراتيجية، وتحويل اقتصادها إلى مجرد تابع للكيان الأمريكي الأكبر Corporate America.

كل ذلك يتم دون الحاجة إلى حشد الجيوش واستخدام الأسلحة كما كان يحدث في أزمنة الاستعمار السابقة؛ فكما تطور العصر تكنولوجيًا، تطورت أيضًا أدوات الاستعمار الجديد سياسيًا واقتصاديًا، وأصبح التدخل يتم وكأن الولايات المتحدة ومؤسساتها تُقدم يد العون إلى تلك البلدان "المسكينة" التي تحتاج إلى من ينقذها.

إحدى أهم الوسائل التي تساعد قراصنة الاقتصاد في أداء مهمتهم، بالإضافة إلى التقارير المزيفة والرشاوى وكل ذلك، هي مؤسسات الأمم المتحدة التي تمثلها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، الذي أنشأها نظام "بريتون وودز".

يقول "بيركنز" في كتابه، الذي كشف الكثير من تلك الحيل الشيطانية، إن النظام الذي فرضته أمريكا فرضًا على العالم، بذريعة تقديم القروض والمساعدات والقضاء على الفقر والمجاعات، استمر في أداء مهمته المرسومة وتصدير الصورة الطيبة عن رأسمالية الغرب المتعاون، لكن الغريب أن كل الدول التي زعمت تلك المؤسسات أنها كانت تساعدها وتُقدم لها يد العون يتدهور حالها؛ فالدول الفقيرة تزداد فقرًا، وشعوبها الجائعة تزداد جوعًا، ولا تمثل تلك المؤسسات إلا وسيلة تساعد هؤلاء القراصنة في القيام بمهامهم. 

جون بيركنز نفسه يعترف بذلك تصريحا لا تلميحا ويقول: "إن ما نتقن صنعه نحن قراصنة الاقتصاد هو أن نبني إمبراطورية عالمية؛ فنحن نخبة من الرجال والنساء يستخدمون المنظمات المالية الدولية لخلق أوضاع تُخضِع الأمم الأخرى لاحتكار الكوربيروقراطية التي تدير شركاتنا الكبيرة وحكومتنا وبنوكنا".

أي قيادة سياسية أو حكومة تعترض على تلك الإجراءات أو تعرب عن تذمرها من الهيمنة الأمريكية يكون مصيرها الذبح، كما تم مع رئيسين من رؤساء أمريكا اللاتينية وهما: خايمي رولدوس رئيس الإكوادور، وعمر توريخوس رئيس بنما، فحين عارض كل منهما محاولات الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على بلادهما كانت النتيجة هي اغتيالهما، فقد قُتل كلاهما في حادثين مروعين. صدام حسين مثالا آخر، وعمر البشير كذلك بصرف النظر عن الدعاوى والمبررات التي ساقتها واشنطن للتخلص من كليهما، فأي منهما لن يكون أكثر إجراما من قادة إسرائيل وآخرهم بنيامين نتنياهو التي تغض واشنطن الطرف عن جرائمه بل وتشاركه في كثير منها.

المسألة أكبر من شعارات ترفعها القوى الكبرى حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهذه القوى أثبتت بما يحدث في غزة أنها لا تؤمن بالديمقراطية إلا لشعوبها، ولا ترى إنسانا غير مواطنيها، وعليه فإنها مستعدة لفعل أي شيء لتأمين مصالحها وتحقيق أغراضها حتى لو باغتيال أمم وتدمير دول، فالغاية تبرر الوسيلة- أي وسيلة- على الطريقة الميكافيللية المنحطة التي نشأت وتطورت في الغرب وأصبحت منهجا متبعا حتى اليوم.

لا يمكن الاستسلام للمخططات الأمريكية بإغراق دول العالم في الديون. البحث عن مخرج لأزمة المديونية العالمية المتنامية أصبح حالّا وواجبا على كل دول الجنوب التي ينبغي عليها التوحد الآن وإعلان رفض سداد تلك المبالغ الطائلة التي تثقلها أو على الأقل إعادة جدولتها بعد شطب القسم الأكبر منها المتعلق بخدمة الديون وفوائدها. وتحميل الولايات المتحدة مسئولية اضطراب أسواق صرف الدولار بسبب ما فعله الرئيس الأمريكي الأسبق المحتال نيكسون بفك الارتباط بين الذهب والدولار لتتحول العملة الأمريكية إلى سلعة في حد ذاتها، وثغرة "تشفط" اقتصادات المتعاملين بها.