رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا نحن فاعلون مع وجيه غالى.. يا غالى؟!.. من الأرشيف السرى للتطبيع

«.. تذكرتُ شابًا مصريًا كان طالبًا فى كلية الطب يُدعى وجيه غالى، وكان ينتمى إلى إحدى الحركات اليسارية، لكنه استطاع الهرب إلى لندن، وهناك تلقفته إحدى الجهات، وكانت تعرف ميوله الصحفية وموهبته الأدبية، واستطاعت أن تُغريه بالسفر إلى إسرائيل، وعاد ليكتب مجموعة من التحقيقات المثيرة لجريدة (الصنداى تايمز) إلى جانب إسرائيل، وزيادة فى التكريم والغواية نُشرت له رواية فى سلسلة بنجوين عن التعذيب فى سجون مصر، وما زالت الرواية فى المكتبات وعلى ظهر غلافها تعريف بوجيه غالى، يقول إنه أول مصرى شجاع يزور إسرائيل ويكتب عنها بحرية كاملة، ولكن هذا الرائد الشجاع وُجد، منذ عامين، منتحرًا فى إحدى غرف البنسيون الذى يقيم به فى لندن! وترك رسالة بخط يده اعترف فيها بخطيئة العمر، أشارت إليها الصحف الإنجليزية بصورة عابرة».

الفقرة من كتاب غالى شكرى «من الأرشيف السرى للثقافة المصرية»، الذى أقام الدنيا ولم يقعدها منذ صدوره عام ١٩٧٢، وحتى آخر طبعاته التى ظهرت عام ٢٠٢١ عن الهيئة العامة للكتاب، فهو أشبه بوثيقة عن بدايات التطبيع مع الكيان، وتخلى غالى شكرى عن المشاعر التى تربطه بالمثقفين، وراح يسخر من موقف توفيق الحكيم، ويمسح الأرض بإحسان عبدالقدوس، ويفضح بيانات سميح القاسم، التى كان يدعو فيها إلى التطبيع والتصالح، ويكشف غالى شكرى- وهو القيمة والقامة الكبيرة- كيف تسربت سناء حسن إلى الأهرام وجلست بين الكبار قبل أن تذهب إلى تل أبيب. وهو كتاب أشهر من الكتابة عنه؛ لما تضمّنه من تشريح لمواقف المثقفين من التصالح مع إسرائيل.

ونعود لسؤال العنوان «ماذا نحن فاعلون الآن مع وجيه غالى يا غالى شكرى؟!»، وليس «وجيه غالى» سوى نموذج لما حدث وجرى فى نهر التطبيع منذ السبعينيات- زمن صدور الكتاب- حتى اليوم، فقد عامت عشرات الجثث فى هذا النهر وحاولت أخرى، وكادت تصل مجموعات ثالثة قبل أن تنقلب الطاولة صباح السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ويتجدد السؤال عن التطبيع، كأن الأرض كانت فى حاجة إلى كل هذا الشر؛ كى نعرف العدو من جديد! فماذا نفعل مع الذين حملوا الحقائب على ظهورهم والتقطوا الصور فى طريقهم إلى تل أبيب! أو ماذا نصنع مع أولئك الذين عرفوا الطريق إلى بيت السفير الإسرائيلى فى المعادى، وحملوا إليه الكتب، والتقطوا معه الصور؟ ماذا نفعل مع أكثر من عشر سنوات مضت كان مفهوم التطبيع قد ترهل وأصيب بتخمة ثقافية، وأصبح مثار سخرية من القادمين بثقافة غربية واسعة ترى ضرورة ردم التراب على القديم وفتح صفحات جديدة مع إسرائيل المتحضرة؟! فماذا فعلت حرب الإبادة التى تقودها إسرائيل ضد الفلسطينيين فينا وفى مستقبلنا الثقافى؟! كيف سنتعامل مع الترجمات والزيارات والتحيات والسلامات والمغازلات، التى ملأت الفضاء الثقافى العربى بشكل عام، كما تعاملنا، أم سنخجل من الدم؟!

هل يعلم غالى أن وجيه عاد مع إيمان مرسال؟!

أما «وجيه غالى» الذى ذكره غالى شكرى فى كتابه، والذى مات منتحرًا، فقد عاد للحياة الثقافية من جديد وعبر بوابة كبيرة سمحت بترجمة روايته «بيرة فى نادى البلياردو»، وصدرت عن دار «الشروق» بترجمة لإيمان مرسال وريم الريس عام ٢٠١٤، كما صدرت ترجمة لرسائله إلى «ديانا أتهيل»، قامت بها نهى بهمن وراجعها محمد صلاح فضل، وطالما جاء اسم الشاعرة إيمان مرسال كمترجمة لرواية أول مصرى يزور إسرائيل، فإن الحديث عن اتهامها بالتطبيع لا بد أن يُذكر، ليس للنيل بأثر رجعى من الشاعرة التى ستحصل على جائزة الشيخ زايد فيما بعد، لكن لأن الواقعة كانت مفصلًا جديدًا فى التعامل مع قضية التطبيع.

ففى أكتوبر ٢٠٠٩ استيقظ الوسط الثقافى العربى كله على خبر يقول إن إيمان مرسال وافقت على ترجمة ديوانها «جغرافيا بديلة» إلى العبرية! وانفرد الكاتب الصحفى محمد عبود بنشر تقرير موسع فى صحيفة «المصرى اليوم» حول القصة المثيرة، والتى ستُحدث زلزالًا مدويًا يدفع الشاعر شعبان يوسف إلى تخصيص ندوة فى ورشة الزيتون لمناقشة قضية التطبيع بشكل عام بعد أن أقدمت إيمان مرسال على اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة، خاصة أن التقرير المنشور استند إلى ترجمة مقالات بالعبرية حول الديوان فى عدة صحف إسرائيلية بعد صدور الترجمة العبرية بتوقيع «ساسون سوميخ»، أستاذ الأدب العربى بجامعة تل أبيب والمدير السابق للمركز الأكاديمى الإسرائيلى فى القاهرة، واشتعل الجدل وظهرت عدة مقالات واستطلاعات رأى فى الصحف والمجلات المصرية والعربية حول الموقف من التطبيع، يشير جميعها إلى الارتباك فى تعليقات المثقفين على الحدث.

ربما كانت ندوة ورشة الزيتون، التى شارك فيها الروائى يوسف القعيد والشاعر أحمد الشهاوى والمؤرخ الراحل فخرى لبيب والكاتبة أمينة زيدان والقاصة هدى توفيق، هى الأكثر وضوحًا فى اتخاذ موقف جماعى واضح ومضاد ورافض لتصرف إيمان مرسال، إذ لم يكتف المشاركون بإدانة إيمان مرسال التى وافقت على الترجمة إلى العبرية، إنما استعرضوا لقطات مشابهة «تطبيعية» لاستضافة الدكتورة هالة مصطفى السفير الإسرائيلى بمكتبها فى جريدة الأهرام، كما أشاروا إلى واقعتى الكاتب على سالم، الذى كان قد استقل سيارته وذهب إلى تل أبيب، والروائى رءوف مسعد، الذى ذهب إلى إسرائيل ضمن وفد هولندى، وكان شعبان يوسف قد استضاف إيمان لمناقشة ديوانها قبل الواقعة، ومع ذلك لم يتردد فى إدانة موقفها بعد الترجمة.

أقول لك: ربما كانت هذه الندوة التى أقيمت بورشة الزيتون هى الأكثر وضوحًا، لكنها لم تكن تعبر عن «إجماع» ثقافى، كما كان الوضع قديمًا مع شبهات السقوط فى دائرة التطبيع! فقد حدث ارتباك كبير فى موقف الحركة الثقافية المصرية من «التطبيع» بشكل عام، ومن ترجمة ديوان إيمان مرسال بشكل خاص! وستشهد الخريطة الثقافية المصرية أول انشقاق فى وحدة الموقف تجاه التطبيع الثابت هذه المرة بوقائع لا تقبل التشكيك، فلم تنكر إيمان مرسال الواقعة وقالت إن سوميخ أرسل لها أنه قام بترجمة الديوان إلى العبرية «ولم أعترض على نشر الديوان بالعبرية، فأنا مقتنعة بأن من حق كل لغة أن تختار ما تشاء، وتقدمه لقرائها». 

على هامش أزمة «جغرافيا بديلة».. التطبيع بعقد.. والتطبيع من غير عقد!

كان اعتراف إيمان مرسال بالواقعة يؤكد أن الترجمة تمت بموافقتها وعن اقتناع بموقفها، وهو الكلام الذى ستؤكده فى مقال لها نشر بصحيفة «أخبار الأدب»، ضمن ملف عن مفهوم التطبيع، سنتوقف عنده بعد الإشارة إلى تصريحات للكاتب الصحفى بـ«أخبار الأدب» محمد شعير أدلى بها فى تحقيق مهم أجراه الكاتب إيهاب الحضرى لصحيفة الشرق الأوسط فى ١٦ نوفمبر ٢٠٠٩، حيث قال شعير لإيهاب الحضرى إنه «بناءً على اتصالات متبادلة بينه وبين إيمان فإنها لم توقع إطلاقًا على أى عقد مع جهة إسرائيلية على ترجمة كتابها، لكنها لم تعترض على ترجمته ونشره باللغة العبرية».

تصريحات شعير جعلت القضية تعود لمربع الأسئلة: هل يقع التطبيع بالتوقيع على عقود أم بغير التوقيع؟! كما أن تصريحاته فتحت الباب لتأويلات وتخريجات تعفى البعض من التورط فى معركة مع إيمان مرسال، التى تتمتع بعلاقات طيبة مع الأوساط الثقافية المصرية والعربية والأجنبية، فهى شاعرة كبيرة ومن المخلصات لمشروعها المعرفى والشعرى أيضًا، وتلقى احترامًا وترحيبًا، جعل قضية التطبيع تتخذ مناحى أخرى هذه المرة، كانت كلمات محمد شعير بمثابة طوق النجاة، فهى لم توقع عقودًا، وهذا ينفى عنها تهمة التطبيع المباشر! ويفتح المجال أمام المثقفين خاصة المقربين منها للهروب من المأزق، بتعبيرات عن الحرية الشخصية والتفريق بين الموافقة على الترجمة فقط وبين توقيع العقود مع الناشر!! وتمادى فريق آخر فى مناصرة إيمان وقال إنها شاعرة كبيرة ومظلومة فى مصر، وحظها فى النشر مثل حظ قصيدة النثر المغضوب عليها، فلم ينُشر لها ديوان واحد فى مؤسسة حكومية مصرية، ومن حقها أن تسمح بترجمة أعمالها فى أى مكان!! فى حين اكتفى فريق أخير بإدانة موقف إيمان فى صمت تام خوفًا من اتهامات بالمزايدات الوطنية، أو بالسخرية من مواقف حنجورية مضى عليها الزمن! فلن يقدم أو يؤخر إن قال إنه يدين هذا الفعل، لكنه لن يقدم على مثله بشكل عام.. وتناثرت المواقف وتبعثرت الحكاية بين المثقفين؛ حتى أعدت «أخبار الأدب» ملفًا عن الموضوع، وكتبت فيه إيمان مقالًا بعنوان «لا أعتذر عما لم أفعل»، رأت فيه أنها لم تفعل شيئًا سوى البحث عن حوار جديد ومختلف بعيدًا عن الرفض المطلق، وبعيدًا عن التأييد المطلق: «هل يمكن أن يوجد حوار بين من يعاملون (التطبيع) كعقيدة دينية، بينما كل مواقفهم الأخرى من الحكومات العربية الديكتاتورية ومن القمع تقل عنصرية عن الفكرة الدينية التى قامت عليها إسرائيل؟ هل يمكن أن يقوم حوار مع من يرون أنه ليست هناك قضية، وأن إسرائيل دولة ديمقراطية، أو أنها قطعة من أوروبا، ويبشرون بذلك مجهضين الأصوات المعارضة حول العالم، التى تتحدث عن تشريد وتجويع وقمع الشعب الفلسطينى فى إسرائيل نفسها؟ كل حوار مع الكسالى من الاتجاه الأول وفاقدى الأمل فى الاتجاه الثانى هو أشبه بمعركة صوتية يصرخ فيها كل طرف فى البرية، حيث لا توجد أرض ولا لغة مشتركة؟ بالطبع توجد أرضية أكثر تعددًا وقابلية للحوار من هذين الجانبين».

وجاءت المشاركات فى الملف تناصر موقف إيمان، باستثناء مقال للراحلة رضوى عاشور رفضت فيه كل أشكال التقارب العربى الإسرائيلى، من خلال الترجمة أو غيرها، وبكتابة عقود أو بغيرها، وهو الموقف الذى اتخذه الشاعر وائل السمرى، فكتب مقالًا عنيفًا «إيمان مرسال.. تجارة القرنس فى ثوبها الجديد» تضمن ردًا ساخرًا على فكرة التطبيع بعقد مكتوب والتطبيع بغير عقد، وقال وائل: «تذكرت تجارة (القرنس) فى زمن الاحتلال الإنجليزى، الذين كانوا يتعاونون مع المحتل ويجنون من وراء تجارتهم مكاسب باهظة، وهذا يدل على أن المُطبع قد لا يكون خائنًا، لكنه مثل تاجر القرنس الذى رضى أن يخدم عدوه مقابل حفنة مكاسب من وراء ظهر الجماعة».

ماذا بعد الجاكت الأحمر؟.. وماذا نحن فاعلون بعد طوفان ٧ أكتوبر؟

والآن.. عليك أن تطوى هذه الصفحة تمامًا، فقد مضى زمن طويل من ٢٠٠٩ وعاد وجيه غالى كما قلت لك، وعادت إيمان مرسال بصورة أكثر إشراقًا، وعاد الهدوء التام من تاريخه حتى ظهرت الكاتبة منى برنس عام ٢٠١٨ بالجاكت الأحمر فى بيت السفير الإسرائيلى ونشرت صورتهما، وظهرت بعدها فى برامج تليفزيونية إسرائيلية، وتعاملت مع الموضوع بأريحية شديدة سمحت لها بالتقاء صديقات إسرائيليات فى سيناء! بينما وقف المثقفون يشاهدون ما يجرى من دون كلمة واحدة!! فكيف يدينها اليوم من دافع عن إيمان مرسال أو قدم المبررات لما فعلت صاحبة الجغرافيا البديلة؟ وهكذا هبط مؤشر الحساسية تدريجيًا، حتى وصل إلى تلك الصورة المترهلة اللزجة فى مصر والعالم العربى، فقد ظهر عشرات فى الجزائر والمغرب والأردن يدافعون عن الحضارة والإنسانية والانفتاح على الآخر، وكانت جميعها دعوات مقبولة ورائجة ويمكن تبريرها أو الخوف من معارضتها للاتهام بالشيفونية ومعاداة السامية والدونية فى الفكر والمنهج.. حتى جاء طوفان القتل والتدمير، الذى ما زال مستمرًا من ٧ أكتوبر حتى كتابة هذه السطور وخلفى وخلفكم صراخ أطفال غزة فى قصف وحشى مهول، فماذا سنفعل؟ هذا السؤال لنا جميعًا.. وليس إدانة لأحد.. ماذا سنفعل فيما هو قادم؟ 

وللحديث بقية إن شاء المولى.