رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انقلاب النيجر.. الوجه الإفريقى للصراع الدولى

النيجر
النيجر

بنهايات الشهر الماضي، استيقظ العالم على وقع انقلاب عسكري في دولة النيجر أطاح برئيسها المنتخب محمد بازوم، ليلحق البلد الإفريقي الغني بالموارد الطبيعية بالجارتين المباشرتين مالي وبوركينا فاسو، فالمؤسسات العسكرية باتت تسيطر على السلطة في الدول الثلاث الواقعة على شريط الساحل والصحراء، وثلاثتها كانت مستعمرات فرنسية.

القراءة الأولية لتفاصيل الانقلاب توحي بأنه يدخل ضمن نطاق مبدأ "تأثير الدومينو"، فالثورات مُعدية والانقلابات أيضًا، غير أن المدقق في سير الأحداث والمتابع لردود الأفعال إقليميًا ودوليًا سيكتشف دونما عناء أن المسألة أكثر تعقيدًا من مجرد صراع داخلي على السلطة.

خلفية الصورة

الإطاحة برئيس النيجر كانت صفعة قوية على وجه فرنسا التي تعتبر "بازوم" أحد أهم حلفائها في الغرب الإفريقي، حيث مساحة النفوذ الاستعماري لفرنسا قديمًا، ومجال حركتها الفرانكفوني حديثًا، وقاعدة المصالح الفرنسية في قلب إفريقيا، ومصدر الثروات الطبيعية والمواد الخام اللازمة للتنمية، ونقطة ارتكاز رحلات التجارة البينية مع معظم الدول الإفريقية. 

في أواخر القرن التاسع عشر سيطرت فرنسا الاستعمارية على المناطق الغنية بالثروات في النيجر. استمر نزح ثروات النيجر إلى المصانع الفرنسية حتى استقلالها في عام 1960، لتأخذ العلاقة بين الدولتين شكلًا جديدًا من خلال منظمة الفرانكفونية وإصدار الفرنك الإفريقي وإجراءات أخرى طبقتها باريس للحفاظ على روابطها بمستعمراتها القديمة. استقلت الدول الإفريقية عن فرنسا شكلًا، لكن علاقة التبعية استمرت.

أهمية النيجر تحديدًا بالنسبة لفرنسا ترجع إلى غنى الدولة الإفريقية بموارد الطاقة، حيث تمتلك واحدة من أكبر احتياطيات اليورانيوم في العالم وتحتل المرتبة السابعة كأكبر منتج له، كما تحتفظ باحتياطيات كبيرة من الذهب والنفط، فضلًا عن اكتشاف احتياطيات كبيرة من الفحم عالي الجودة في المناطق الجنوبية والغربية من البلاد.

فرنسا تحصل على ما يقرب من 40% من اليورانيوم اللازم لتشغيل محطات الكهرباء من النيجر وحدها. هذه الكمية تنتج حوالي 70% من كهرباء البلد الأوروبي الذي يواجه أزمات متلاحقة في تأمين احتياجاته من الطاقة خصوصًا بعد توقف إمدادات الغاز الروسي بسبب الحرب الأوكرانية. 

من هذه الزاوية تحديدًا تأتي المخاوف الفرنسية. تلك المخاوف التي تحقق جزء منها حين قرر المجلس العسكري الانقلابي تعليق صادرات المعدن الثقيل إلى فرنسا، رغم أن بعض الوكالات الأوروبية تشير إلى امتلاك باريس مخزونات كافية من اليورانيوم تكفي لبضع سنوات.

ولا تقتصر أهمية النيجر بالنسبة إلى فرنسا على تصدير المواد الخام ومصادر الطاقة فقط، وإنما تمتد أيضًا لموقعها الاستراتيجي في منطقة الساحل والصحراء، حيث تعد حليفًا في مكافحة الحركات الإرهابية المنتشرة في المنطقة كتنظيم القاعدة وداعش وبوكو حرام، وبالإضافة إلى دورها في مكافحة الهجرة غير الشرعية. كما أنها تستضيف قاعدة عسكرية فرنسية تضم حوالي 1500 جندي، وقاعدة أخرى أمريكية تضم 1100 جندي.

الانقلاب دق جرس الإنذار في الدول الغربية التي تدعي مكافحة الإرهاب في المنطقة بداية من نشاطه في شمال مالي منذ عام 2012 وانتشاره بعد ذلك إلى النيجر وبوركينا فاسو. هذا التمرد يهدد الآن الحدود الهشة للدول على طول خليج غينيا، تلك المنطقة التي تعد رابع أكبر مصدر للغاز المسال إلى أوروبا بعد روسيا والولايات المتحدة وقطر.

الانقلاب وخروج السلطة عن دائرة حلفاء فرنسا بين عشية وضحاها هدم كل هذه المصالح فجأة فوق رءوس الفرنسيين، كما أنه ينذر بتكرار التجربة في دول أخرى بمنطق العدوى، خصوصًا مع الغضب المتصاعد في إفريقيا تجاه سياسات النهب الفرنسي والتدخلات الغربية الخشنة في الشئون الداخلية للدول الإفريقية.

الموقف الفرنسي

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون توعد بالرد - الفوري والقوي - على أي تهديد لمصالح فرنسا في النيجر، وذلك في أعقاب تظاهر آلاف الأشخاص أمام السفارة الفرنسية في نيامي، ومحاولتهم اقتحام المبنى، وإشعال النار في بعض أجزائه.

لم تكتفِ باريس بالتهديد، وكثفت جهودها الدبلوماسية لحشد وتعبئة الرأي العام العالمي وفي القلب منه الإفريقي ضد القادة العسكريين في النيجر بغرض إنهاء الانقلاب وإعادة حليف فرنسا إلى موقعه رئيسًا للبلاد بدعوى أنه منتخب وأنهم يدافعون عن الديمقراطية!

التحركات الفرنسية أسفرت عن تصاعد حدة التوترات بين المجلس العسكري الجديد في النيجر، بقيادة الجنرال عبدالرحمن تشياني، وبعض الأطراف الخارجية الأخرى، مثل مجموعة دول غرب إفريقيا "إيكواس" وصلت إلى حد التهديد بالتدخل العسكري المباشر، انتظارًا للقرارات المرتقبة لاجتماع قادة المجموعة اليوم الخميس في العاصمة النيجيرية أبوجا.

بعض التقارير الغربية كشفت عن المحدد الرئيسي للانقلاب العسكري الأخير في النيجر، والذي يتمثل في تصاعد حالة السخط داخل النخبة العسكرية هناك، وهو ما أرجعته هذه التقارير إلى عدة أسباب، يتعلق بعضها بعرقية الرئيس المعزول محمد بازوم، والذي ينحدر من أقلية عرقية عربية، ما أثار استياء الدوائر العسكرية الأخرى التي تتشكل في مجملها من مجموعات عرقية أكبر.

استقطاب إقليمي

أضاء الانقلاب العسكري الأخير في النيجر على حالة الاستقطاب الإقليمي الحاد في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، فما بين داعم ومندد، تراوحت مواقف دول الجوار، حيث أصدرت مالي وبوركينا فاسو بيانًا مشتركًا، حذرتا فيه من أي تدخل عسكري، واعتبرتا أن مثل هذا التدخل سيعادل إعلان حرب على باماكو وواجادوجو، ردًا على التهديدات الأخيرة الصادرة عن مجموعة "الإيكواس". من جانبها، أعربت غينيا كوناكري عن تضامنها مع السلطات الحالية في النيجر، رافضة المشاركة في أي إجراءات ضد نيامي. وفي المقابل، أعلنت السنغال عن استعدادها لإرسال قوات عسكرية إلى النيجر إذا قررت "إيكواس" التدخل عسكريًا.

في نفس السياق، حذرت الجزائر من أي نية للتدخل العسكري الأجنبي في النيجر، واعتبرت أن هذه الخطوة ستزيد من تعقيد الأزمة. 

الفزاعة الروسية

منذ أن رفع المتظاهرون الداعمون للانقلاب في النيجر أعلام روسيا، تنامى الفزع الغربي من احتمالية خروج النيجر من حظيرة الغرب وانضمامها إلى المعسكر الروسي المعادي. التحركات الغربية كلها تدور حول منع حدوث هذا الاحتمال. كثير من التصريحات الغربية حذرت من أن تنشط مجموعة "فاجنر" داخل النيجر مثلما فعلت في الجارتين مالي وبوركينا فاسو، فضلًا عن وجودها القوي في ليبيا والسودان، بما يمكن روسيا من فرض سيطرتها على منطقة الساحل والصحراء بكاملها.

بعض التقارير الغربية سلطت الضوء على زيارة الرجل الثاني في المجلس العسكري الحاكم في النيجر، الجنرال ساليفو مودي، إلى مالي، مطلع الشهر الجاري، للتشاور مع قائد المجلس العسكري الحاكم في باماكو، عاصمي جويتا، وكذلك اللقاءات التي عقدها خلال زيارته مع قادة "فاجنر" الروسية الموجودة في باماكو لطلب الدعم منها في مواجهة أي تدخل محتمل من قبل "الإيكواس".

عالميًا، ومع تصاعد التوترات السياسية واحتدام المنافسة الاقتصادية، باتت إفريقيا التي يتركز فيها 12% من إنتاج النفط العالمي، و18% من احتياطيات الغاز، مركزًا جاذبًا للنفوذ الدولي، فالقوى الدولية تتسابق عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، حيث أصبحت القارة السمراء المنطقة الواعدة الأكثر والأسرع نموًا في العالم، وإلى جانب غناها بالموارد الطبيعية والمواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة، تعتبر القارة سوقًا استهلاكية ضخمة حيث تضم أكثر من 1.3 مليار نسمة. 

أصبح واضحًا أن معظم الدول الإفريقية تظهر الرغبة في التعاون الاقتصادي وإقامة شراكات مع الفاعلين الدوليين. تعمل إفريقيا على العثور على مكانها اللائق وتعزيز تأثيرها في عالم متعدد الأقطاب. تقدم المنافسة بين القوى الكبرى في إفريقيا فرصة ملائمة للدول في القارة لاختيار أفضل الشركاء، مع مراعاة مصالحهم الخاصة. 

بالنسبة للعديد من دول إفريقيا، يمكن أن تكون روسيا في الوقت الحالي الشريك المفضل، حيث تتمتع بقبول أوسع لدى الأفارقة من الغرب أو حتى الصين. علاوة على ذلك، قد تصبح العلاقات بين موسكو وإفريقيا أقوى في المستقبل القريب. 

ومع انتهاء اتفاق الحبوب، ستتفاوض الشركات الروسية والدول الإفريقية مباشرةً بشأن إمدادات الغذاء والمساعدات الإنسانية بالطريقة التي اتفق عليها القادة الأفارقة في اجتماعهم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة الروسية الإفريقية التي عقدت في مدينة سان بطرسبرج الروسية عشية انقلاب النيجر نهايات الشهر الماضي.