رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منذر الحايك: هناك من يُشرع القتل باسم الجهاد ويظن أن الله اختاره دون غيره.. والجهل بمعتقدات يعيدنا لمحاكم التفتيش

الباحث السورى منذر
الباحث السورى منذر الحايك

- منهجى يعتمد على التعامل مع الدراسات الدينية كمادة علمية

- فكرة الدين الإبراهيمى سياسية أكثر منها دينية وهى دعوة ملتبسة غير واضحة المعالم

- علم الأديان المقارن يسعى لتحقيق الانفتاح على مختلف المعتقدات

عشرات من الإصدارات والترجمات فى الأديان والتاريخ تحمل اسم الباحث السورى منذر الحايك، فمنذ سبعينيات القرن الماضى بدأ اهتمامه بالتاريخ الذى تبلور فى رسالته للدكتوراه بعنوان «العلاقات الدولية فى عصر الحروب الصليبية»، ليتبعها بعدد من المؤلفات التاريخية، إلى أن قاده شغفه للتركيز على مجال الأديان المقارنة، فتبلور مشروعه فى سلسلة مؤلفات حملت عنوان «كتب مقدسة»، تعرّض فيها لمختلف الأديان السماوية وغير السماوية، عبر دراسات نقدية مقارنة لبعض الكتب المقدسة.

فضلًا عن ذلك، أصدر الحايك سلسلة أخرى من الكتب بعنوان «نصوص مقدّسة» تناول فيها عبر الدراسة النقدية المقارنة مختلف المذاهب الإسلامية، وهدف من خلالها، حسبما أوضح فى حواره معنا، إلى ردم الفجوة بين أتباع هذه المذاهب والكشف عن الكثير من الأفكار المغلوطة التى يحتفظ بها كل فريق عن الآخر، ما يصل بهم فى بعض الأحيان إلى تكفير بعضهم بعضًا. 

فى هذا الحوار، نبدأ مع «الحايك» من ترجمته الصادرة حديثًا كتاب «ما هو أصل الإنسان»، لمناقشة فكرة كان قد طرحها فى تقديمه الكتاب، ثم نتحاور معه حول ملامح مشروعه الفكرى المتمحور حول علم دراسة الأديان المقارن، وما يروم تحقيقه من خلاله. 

■ لنبدأ من أحدث منجزاتك.. فى ترجمتك كتاب موريس بوكاى «ما هو أصل الإنسان؟» أشرت إلى أن كاتبه يعبر عن إيمان بالدين الإبراهيمى وأنه دعوة مبكرة لتوحيد الأديان السماوية الثلاث.. فما رأيك بهذا المنحى وهذه الدعوة بشكل عام؟ 

- نعم لقد كان بوكاى من أوائل من طرح فكرة الأديان الإبراهيمية فى العصر الحديث، لكنه لم يدع لتوحيدها، ففكرة التوحيد معاصرة، وهى ترتبط بظروف سياسية خاصة أكثر منها دينية. كما أننى أراها دعوة ملتبسة غير واضحة المعالم، إضافة إلى أنها لم تؤطر، ولم يشرح أحد حتى الآن إلى أى مدى ستكون هذه الوحدة بين الأديان الإبراهيمية، ولا كيف ستطبق. أنا شخصيًا لا أتوقع نجاحها، فأسباب رفضها أكثر من قبولها، وسكوت الكثيرين عنها لا يعنى قبولهم لها. 

فضلًا عن ذلك، فهى فكرة دينية، أى أنها لا تتوجه للعلمانيين، بل للمتدينين، وهؤلاء من الأديان الثلاثة لا يقبلونها، فهل يتوقع عاقل أن تقبل بها الجماعات اليهودية المسيطرة الآن وكلها متطرفة؟ أو الجماعات المسيحية الأكثر تَنفذًا والأكثر تطرفًا فى أوروبا وأمريكا، التى شنت وتشن الحروب يمينًا وشمالًا أم ستقبلها جماعة الإسلام السياسى الداعية لقيام دولة إسلامية.

■ لديك مشروع ضخم تجسّد فى سلسلة «كتب مقدسة» التى نُشِرت تباعًا على مدار السنوات الماضية.. هل حقق هذا المشروع ما كنت ترنو إليه؟ وما تقييمك الخاص لما حققه؟ 

- يرى سبينوزا أن كل كتاب يحث الإنسان على الفضيلة هو كتاب مقدس، لكن ما قصدته أنا بالكتب المقدسة الكتب الدينية التى يعتقد أتباعها أنها منزلة من السماء أو مُوحى بها. هذا المشروع اكتمل منذ سنتين بعد صدور الجزء السادس عشر من السلسلة، ولذلك أستطيع الآن أن أقول إنه حقق معظم ما كنت أريده منه، فسلسلة كتب مقدسة، بعد أن توزّع منها آلاف النسخ، تتواجد الآن فى مكتبات أغلبية الجامعات العربية، وعدد منها يدرس فى أقسام علم الأديان المقارن، وفى عدد من كليات الإلهيات فى تركيا. وقد دعيت لمناقشات كثيرة حول هذه السلسلة، كما ألاحظ أنها ترد بكثرة فى استشهادات الرسائل والكتب الجامعية. 

أما تقييمى الخاص لما حققه المشروع فمن المبكر تحديده لأننى ما زلت أنتظر تحقيق الهدف النهائى له وهو وضع قاعدة لموسوعة عالمية مقارنة للأديان، تنطلق من كتبها المقدسة، التى أتوقع أنها ستخرج بنتيجة مهمة جدًا وهى: وحدة القيم والأهداف البعيدة لتلك الأديان جميعًا، لأنها تدعو بغالبيتها العظمى إلى الإيمان بإله واحد، رحيم بخلقه، وترجو كلها خير الإنسان وصلاحه.

■ كيف تعاملت مع السياج والمحاذير التى تحول دون التعمق فى الدراسة المقارنة للأديان؟ وكيف تعاطيت مع الحساسية التى قد يتعامل بها أتباع كل دين مع هذه الأبحاث؟  

- كان المنهج الأساسى لى فى التعاطى مع تلك الدراسات الدينية هو التعامل معها كمادة علمية، وبحيادية تامة، وذلك وفقًا لطرائق علم الأديان المقارن. لقد كنت دائمًا أخشى من احتمال ألا يوافق البعض على ما أنشره من نصوص دينهم أو مذهبهم، لكن فى الحقيقة ما لمست إلا كل ترحيب واهتمام، وقد تلقيت كثيرًا من الاتصالات تشجع على المضى فى هذا الاتجاه. ومع ذلك فلا أخفى أنه كانت هناك آراء اعترضت على جزئيات، التى هى وجهات نظر يُختلف عليها داخل المعتقد نفسه، لكن بشكل عام لم ألحظ وجود أى صعوبات أو محاذير، ولم أواجه إلا الشكر والامتنان من كثير من القراء من مختلف الأديان والمذاهب، وما يدعم ذلك هو الرواج الكبير لهذه الكتب.

■ فيمَ يختلف علم الأديان المقارن عن دراسة تاريخ الأديان؟ وما آلية عمل كل منهما؟

- تاريخ الأديان هو سجل عام لكل الأحداث الدينية ومجرياتها، يهتم بنشأة الأديان وتطورها وانقساماتها ومذاهبها وتحليل معتقداتها، ويحدد أماكن انتشارها وماهية أتباعها، ويمكن للباحث فيه أن يقيم الأديان من حيث أثرها فى المجتمعات أو فى السياسة. 

أما علم الأديان المقارن فهو شىء مختلف، بدأت بحوث هذا العلم تظهر لأول مرة فى ظل الحضارة الإسلامية، ومن أشهر من كتب فيه: ابن حزم والشهرستانى والبيرونى. ومع أن جل أعمالهم كان يهدف إلى إبراز مكانة الإسلام بين الأديان، إلا أنهم يعدون رواد هذا العلم. أما فى أوروبا فقد بدأ هذا اللون من الكتابات يظهر فى منتصف القرن التاسع عشر، وكان ذلك على يد الألمانى فريدريك ماكس مولر.

إن علم مقارنة الأديان الحديث يهتم بدراسة واكتشاف علاقة كل دين بما سبقه أو تلاه من الأديان، ومن أهم قضاياه كشف التماثل أو التناقض بين أفكار هذه الأديان. وهو علم يدرس دينًا ما، أو كتابه المقدس، من خلال المصادر التى أخذ منها أو الأفكار التى استقاها. ويلاحظ مدى تأثره بالأديان الأخرى، وما أثر فى غيره من الأديان. إنه علم لا يهتم أبدًا بمدى مصداقية هذا الدين أو ذاك أو حقيقته، ولا يقوم أبدًا بتقييم أهميته أو ضعفه، ولا حسناته أو مساوئه، فكل ذلك لا علاقة لعلم الأديان المقارن به.

وبذلك نستطيع القول إن تاريخ الأديان الذى هو جزء من الدراسات التاريخية شىء مختلف تمامًا عن علم الأديان المقارن الذى يجمع بين العلوم البحتة واللاهوت.

■ ما الذى يمكن تحقيقه من خلال دراسات علم الأديان المقارنة؟ 

- لننطلق من حقيقة أى دين، حيث نجد أنها مجموعة معتقدات وقيم روحية تنظم العلاقات بين الإنسان وخالقه وبينه وبين أخيه الانسان. ومن أهم أسباب حسن العلاقة بين البشر وتعاونهم على العيش المشترك هو الانفتاح على الآخرين، وهذا الانفتاح لا يتم إلا من خلال التعرف على المعتقد الدينى للآخر، وهذه المعرفة هى التى يحققها علم الأديان المقارن.

وهو أمر تظهر أهميته فى حياتنا المعاصرة، التى- مع الأسف- بقدر ما تقارب فيها الناس، من خلال وسائل التواصل الحديثة، بقدر ما تباعدوا واختلفوا، وأغلب أسباب ذلك الخلاف هو سوء فهم الآخر، وطالما كان اختلاف الأديان وراء اختلاف وحروب البشر، حيث رأينا عودة الحروب الدينية، فهناك من ينادى بحرب صليبية، ومن يعلن أن الله اختاره دون بقية خلقه، ومن يشرع القتل باسم الجهاد، وكأن الله كلفهم بقتل عباده، متناسين أن الله الذى يعلنون الحروب باسمه هو الإله العادل ومن أسمائه السلام والرحمن الرحيم.

لقد أعادنا الجهل بمعتقدات الآخر الدينية إلى عصر محاكم التفتيش، فلدينا محاكم شرعية خرج رجالها من ظلمات التاريخ المتعفن يطلقون تهم الكفر على كل من خالفهم، وحتى فى أوروبا المتحضرة نجد أحزابًا مسيحية متعصبة وأحزابًا فاشية ضد من يسمونهم غرباء، وفى إسرائيل التى يحكمها الآن تآلف فى منتهى التطرف والحقد على كل من ليس بيهودى، وآخر المطاف الأحزاب الهندوسية المتطرفة التى تركت واقع بلادها المر وفطنت الآن إلى أن المسلمين هم الأعداء وليس التخلف والجهل. أعتقد أن كل هؤلاء أشخاص يمثلون أنفسهم ولا يمثلون حقيقة أديانهم التى هى كلها فى جوهرها تدعو للمحبة والسلام. وهذا ما يستدعى وجود مواجهة فكرية سلمية تدعو إلى التآلف والتعايش، وتظهر حقيقة الأديان السلمية.

■ يشير كثير من المقاربات التى تعرضت لها إلى تشابه فى المعتقدات بين الأديان القديمة والسماوية.. فمثلًا أشرت إلى أن المكتشفات الأثرية الأكادية تتحدث عن الملك سرجون، وهى قصة النبى موسى بحذافيرها، وإلى وجود تطابق بين زرادشت والمسيح أو سيرة النبى محمد. فما الذى يمكن استنتاجه من هذا التشابه؟ هل يعنى ذلك الاعتقاد أن الأديان جميعًا ترجع إلى أصول بعينها وإليها تنتمى؟ 

- إن هذا التكرار أو التشابه فى القصص لدى أديان مختلفة لا أراه اقتباسًا، أو مجرد ترداد لما سبق، بل أراه تأكيدًا تاريخيًا من الرواية الأحدث للرواية الأقدم، فلا يوجد أى كتاب دينى احتكر رواية القصص وقال إنها حصرية له، أو أنه كذّب بقية الروايات. وهنا أحب أن أورد مثالًا واقعيًا: فى رُقُم مكتبة إيبلا وجدت أسماء جبرائيل وميكائيل واسرافيل على أنهم ملوك لبلدة إيبلا (٢٥٠٠ ق. م)، فهل يجب أن يعنى ذلك أن الملائكة الذين نعرفهم، وفق رواية الأديان السماوية، بهذه الأسماء لا وجود لهم؟ وأنهم ليسوا سوى ملوك فى إيبلا! أبدًا ليس ذلك بالضرورة، فكثير من أسمائنا اليوم يحمل أسماء أنبياء، بل يحمل أسماء الله الحسنى مع إضافة كلمة «عبد»، إنها الحالة نفسها.

وأيضًا القصص الدينية كثير منها متشابه بل متطابق لدى عدة أديان، منها قصة الملك سرجون الأكادى التى تكاد تكون هى قصة النبى موسى بحذافيرها، وكذلك نجد كثيرًا من التطابق بين قصة حياة زرادشت وحياة السيد المسيح أو حتى سيرة النبى محمد. 

هنا أحب أن أذكر أن كثيرًا من الوضع قد تم فى سيرة الرسول التى لم تكتب حتى زمن متأخر، وبداياتها كانت فى القرن الثانى الهجرى ولم تتبلور مع ابن هشام والواقدى إلا بعد ذلك بكثير، حيث كان المسلمون قد تعرفوا على التراث الدينى للأمم الأخرى، خاصة تراث فارس والتراث المسيحى، وكما نعرف فالإنجيل هو سيرة يسوع المسيح وحياته، ولا يتضمن إلا النذر اليسير من الشرائع أو العقائد، تلك التى استكملها بولس الرسول فيما بعد من خلال رسائله، فالمسلمون أرادوا أن تكون لرسولهم سيرته أيضًا، واستلهام بعض التفاصيل وارد. 

أما التشابه فى العقائد أو الطقوس الدينية فهنا يجب ألا ننسى أن جميع الأديان تقول إن مرجعها الله الخالق المبدع، وبالتالى فالمصدر واحد، والتشابه والتقارب طبيعى فى هذه الحالة. وبالتالى فأنا أرى أن التشابه هو دعم تاريخى للرواية الدينية ولا ينتقص منها بشىء.

■ إن كانت القصص الرئيسية فى الأديان متشابهة فى المعنى الكلى، ومختلفة فى التفاصيل كما بيّنت مؤلفاتك المقارنة.. فما السبيل الأمثل للتعاطى مع هذه القصص؟ هل باعتبارها أحداثًا تاريخية وقعت بالفعل أم قصصًا يُراد منها الاعتبار والتفكر فقط؟  

- إن كل خبر له سند تاريخى، وموثق بالكتابة أو بالأثر هو حدث تاريخى حقيقى، لكن هناك كثير من القصص الدينية لا توثيق لها، فهل يعنى هذا عدم حدوثها، كلا بالتأكيد، فلا شىء يمنع من أنها قد حدثت فعلًا، دون أن يتاح توثيقها. ومعظم هذه القصص وردت فى الكتب المقدسة وكان القصد منها هو الوعظ والاعتبار. ولا توجد مشكلة مع القصص الدينية فهى متطابقة فى حيثياتها العامة لدى معظم الأديان السماوية والوضعية، مثل قصة الخلق وقصة الطوفان، لكننا نجد الخلافات المستحكمة فى نظرة كل دين لحقيقة الأديان الأخرى، فمثلًا الدين اليهودى لا يعترف بالدين المسيحى ولا بالدين الإسلامى، لكن الدين المسيحى يؤمن بكل ما تؤمن به اليهودية، حتى إنه ضمن كتاب التوراة كقسم أول من كتابه المقدس، وهو لا يعترف بدعوة الإسلام من أساسها، بينما نجد أن الإسلام يعترف باليهودية والمسيحية ويُجِل أنبياءهما.

■ بالموازاة مع سلسلة «كتب مقدسة»، كانت لك سلسلة أخرى بعنوان «نصوص مقدّسة» عنيت فيها بالدراسة المقارنة للمذاهب الإسلامية.. فما الذى أردت تحقيقه من خلال هذه السلسلة؟ إن كنت قد رمت ردم الفجوة وتحقيق التعايش.. فهل تستطيع المعرفة برأيك، إن وجدت آذانًا صاغية لها، أن تتغلب على الدوغما الدينية لدى أصحاب كل معتقد؟  

- مع الصبر والمثابرة نعم نستطيع ردم الفجوة، وفى الحقيقة كانت الدوافع لهذا المشروع هى هذه الفجوة بين أتباع المذاهب الإسلامية، إضافة إلى أن انغلاق قسم كبير من هذه المذاهب على نفسها سمح بتداول أفكار غير حقيقية عن معتقداتها وصلت إلى حد التكفير. لذلك حاولت بهذه السلسلة أن أعرف بشكل حقيقى بهذه المذاهب، بعيدًا عن الغوغائية وروح العداء السائدة، كما جاءت هذه السلسلة دعوة لكل المذاهب والفرق الإسلامية لنشر تراثها الفقهى ومعتقداتها حتى يزول الالتباس، وليتم التعرف على الحقيقة التى بالتأكيد لدى كل طرف جزء منها.