رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم التنحى


يعتبر يوم التنحي، يوم 9 يونيو 1967 أطول يوم في تاريخ المصريين القديم والحديث. 
التنحي هو الابتعاد. وبلغة السياسة والحكم، هو التخلي عن السلطة عقب فشل تجربة سياسية خطيرة. وهو ما حصل مع الزعيم جمال عبد الناصر، في أعقاب هزيمة عسكرية دمرت كل شيء، ولم تخطر على بال أي مصري وقتها. في أعقابها مباشرة ظهر الصراع على السلطة بين أنصار المشير وأنصار عبد الناصر. وكان يجب حسم الأمر، وفي تلك الظروف لم يجد الرئيس أمامه إلا مواجهة الجماهير الغاضبة بالتنحي، غير أن الجماهير رفضت، وتحولت القاهرة وقتها إلى ميدان كبير يضم كل أبناء الأقاليم الغاضبين من تنحي الرئيس ورافضين الهزيمة ومطالبين بعودة الرئيس. 
كان هذا هو المشهد الذي تم تصديره للتاريخ ليقول كلمته فيما بعد، ولكن الواقع أن مصر كلها وقتها كانت تحكم بنظام مركزي يميل إلى المعسكر الشرقي، ويسانده حزب واحد هو الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي تأسس في عام 1957، الذي تسللت خلاياه إلى كل مفاصل الدولة الحاكمة في ذلك الوقت، في كل الوزارات ومؤسسات الدولة، كانت هناك وحدات للاتحاد الاشتراكي. وقد تولد عن هذا التنظيم، تنظيم شبابي آخر هو منظمة الشباب الاشتراكي، على غرار منظمات "الكومسمول" الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وكانت لمنظمات الشباب وحدات في كل المواقع الحاكمة والمدارس الثانوية والفنية والجامعات، وكانت تقام لهؤلاء الشباب دورات تثقفية مكثفة في معاهد الشباب في حلوان والجزيرة ترتكز على دراسة كتاب ميثاق العمل الوطني الذي اعتبره عبد الناصر بديلا عن الدستور. كما كان هذا الكتاب يدرس في المدارس الثانوية العامة، وهناك سؤال إجباري عنه في امتحان الثانوية العامة. 
كما كان لا يمكن تعيين أي موظف في وظيفته دون أن يكون عضوا في الاتحاد الاشتراكي
وهو ما ظهر حين قام الرئيس السادات فيما بعد في مايو 1971 عندما قام بفصل عدد كبير من معارضيه من الاتحاد الاشتراكي، مما ترتب عليه فقدانهم وظائف الرسمية التي عينوا فيها منهم عددا كبيرا من الصحفيين وأساتذة الجماعات.
كانت من مميزات الاتحاد الاشتراكي سرعة التواصل مع أعضائه، من خلال وسائل الاتصال الحكومية الرسمية في المحافظات ورئاسات المدن والأحياء، وصدرت التعليمات لإدارات المرور بوزارة الداخلية بالاستيلاء على كل سيارات النقل الموجودة في نطاقها وسحب الرخص منها وتسليما لمندوب الاتحاد الاشتراكي لتنقل الأعضاء من الأقاليم إلى القاهرة وتزويدهم باللافتات التي أعدت على عجل، وتلقينهم هتافات، ويصاحب موكب كل محافظة مندوب إعاشة ومسئولون من الاتحاد الاشتراكي لقيادة الهتافات والالتزام بمكان معين في ميدان التحرير. كما صدرت التعليمات لهيئة السكة الحديد لنقل الركاب مجانا من أقصى مدن الصعيد للقاهرة، وتم تحميل تلك الملايين بتلك الطريقة في شوارع القاهرة يوم 10 يونيو. 
ولعلنا نلاحظ أن ما فعله تنظيم الإخوان المسلمين في يونيو 2013 وتجميعهم في ميدان رابعة، بنفس تكنيك تنظيم الاتحاد الاشتراكي في حشد المواطنين في يونيو 67. مع فارق أن إقامة الإخوان في ميدان رابعة كان التخطيط لها الإقامة الكاملة وليست المؤقتة، وفي رابعة كان يتم تسليم كل من يحضر للمبيت ورقة من فئة الـ200 جنيه خلاف الإعاشة 3 وجبات فاخرة. 
الحقيقة لا يمكن إغفال أن المواطنين كان لديهم اندفاع جنوني للتمسك بالرئيس؛ لأنه لم يكن هناك بديل، فضلا عن أنها كانت على مبادئ الاتحاد الاشتراكي في المحافظة على الزعيم، ووجدت الجماهير من ينظم حركتها وينقلها بوسيلة مناسبة ويتيح لهم التعبير عن رأيها ومناشدة الزعيم للبقاء، فاستجابت.
كما لتأثير أسلوب خطاب التنحي الذي صاغه محمد حسنين هيكل الذي أذيع في التليفزيون المصري، أثره الكبير في التأثير في عواطف الجماهير. وكان قد تم التمهيد له قبلها بست ساعات كاملة. الطريقة التي بدأ بها الزعيم بطريقة مغايرة تمامًا للخطابات السابقة، كان هذا المرة هادئًا وعاطفيًا. مما كان له أثره البالغ على مشاعر المواطنين. بدا الرئيس مستسلما وهو يعترف بالمسئولية عن الهزيمة، وفضلا عن ذلك فإنه مارس سلطته حتى اللحظة الأخيرة، وقام بتعيين خلف له، وهو السيد زكريا محيي والمعروف بميوله اليمينية تجاه الغرب المعادي لأفكار الاتحاد الاشتراكي، ولعل ذكاء السيد ذكريا محيي أفاده في أنه أصدر بيانا في نفس الليلة يرفض فيه هذا التعيين قبل أن تفتك به الجماهير الغاضبة.
كانت لدى الجماهير التي تجمعت بميدان التحرير وقتها رغبة أكيدة في عودة الرئيس جمال الناصر ورفض الهزيمة، ورسالة قاسية للإسرائيليين الذين وصلوا إلى الجانب الآخر من قناة السويس، حتى لا يكون هناك هدف أبعد من ذلك. 
الغريب أن تنظيم الاتحاد هو الذي مكن الرئيس السادات من الوصول للحكم، بعد الوفاة الفجائية للرئيس عبد الناصر، ومع ذلك تنكر له السادات وقام بحله منعا لتكرار تجربة الحشد حتى لا تستخدم ضده. لأن التحقيقات مع معارضيه أثبتت أنهم كانوا يخططون للحشد بنفس الطريقة عن طريق تهيئة الجماهير للخروج بتقديم استقالاتهم. ولكن الرئيس السادات كان الأذكى وأدخلهم السجون، وقضى للأبد على فكرة التنظيم الواحد.